الصحافة الفرنسية
عودة متوقعة لليسار الاشتراكي... وقراءة في أسباب الاستفزاز الإسرائيلي!
الاتجاه العام الذي يتوقع أن تتكشّف عنه الانتخابات الجهوية الفرنسية، ودلالات الاستفزاز الإسرائيلي المتزامن مع زيارة "جو بايدن"، والدروس المستخلصة من انتخابات العراق الأخيرة، ثلاثة موضوعات استقطبت اهتمام كُتاب افتتاحيات الصحف الفرنسية.
الانتخابات الجهوية... تحول سياسي
على هامش حملة الانتخابات الجهوية أظهرت الصحف الفرنسية ما يشبه الإجماع على أن نتائج هذا الاقتراع ستصب في مصلحة الحزب الاشتراكي المعارض، وعلى أنها ستكرس نوعاً من التصويت العقابي ضد اليمين الساركوزي الحاكم. في افتتاحية بصحيفة ليبراسيون قال الكاتب لوران جوفرين إنه ما لم تكن الاستطلاعات خداعة بشكل مطلق فإن الحزب الاشتراكي، وزعيمته مارتين أوبيري، سيكونان على موعد مع فوز انتخابي جهوي كاسح، مثنياً، بشكل خاص، على مستوى أداء زعيمة الحزب، التي تعطي في سجاياها وصرامتها وقوة إقناعها بعض ملامح أنجيلا ميركل، وعلى نحو يجعل التفكير منذ الآن في إمكانية ترشحها لاستحقاقات انتخابية لاحقة رهاناً يستحق من الاشتراكيين التعويل عليه، خاصة بعدما تمكنت من التغلب على الصراعات الداخلية العقيمة في الحزب، وتمكنت أيضاً من احتواء اعتراضات دومينيك ستروس كان، وغيره من أقطاب و"فيلة" الحزب صعبة الترويض. وبصفة عامة، يقول الكاتب، فإن الأفق الذي يبدو أن الانتخابات الجهوية ستتكشف عنه هو العودة القوية لليسار الفرنسي إلى مقدمة الواجهة، وهو ما يعني، استطراداً، تحولاً جذرياً وشيكاً في معطيات المشهد السياسي الفرنسي، بشكل عام. وفي افتتاحية أخرى كتبها دانيل رويز في "لامونتان" قال هو أيضاً إنه لم يعد هنالك شك في أن الاستحقاق الجهوي سيكون عنوانه الأبرز هو موجة التصويت العقابي ضد ساركوزي وسياساته. ومن المعروف أن الانتخابات الجهوية الفرنسية تعد عادة مؤشراً على المزاج السياسي العام في البلاد بالنظر إلى ارتباطها عن قرب بأكثر الرهانات المحلية حيوية وإلحاحاً، مثل كيفية إدارة الشأن الجهوي، والبلدي، والضرائب، وسوى ذلك. وبفعل الثغرات والفجوات المسجلة في أداء اليمين يبدو أن الحزب الاشتراكي وجد الآن فرصة للعودة بقوة إلى مقدمة المشهد، بعد أن كان ذلك الحلم بعيد المنال قبل ستة أشهر من الآن، حين كان أكبر أحزاب اليسار يتخبط في أزماته الداخلية، ويجد نفسه خارج الصورة في كافة المجالات. والحاصل من كل ذلك أن فوزاً شبه مؤكد ينتظره الآن، وإن كان لهذا أيضاً ثمن عكسي محتمل داخل الحزب نفسه، فإذا توافقت النتائج والتوقعات ونجح حزب مارتين أوبيري، فقد يوقظ ذلك شهية التوثب والانقضاض لدى بعض تيارات الحزب النزقة التي ظلت في حالة بيات خلال الأشهر الماضية، لتعود الصراعات والتفسخات الداخلية مجدداً. وأخيراً ذهب "باتريك بيبن" في افتتاحية بـ"نور أكلير" إلى أن مؤشرات تراجع الحزب الحاكم في استطلاعات الرأي كانت قد بدأت تسجل بقوة منذ الانتخابات الأوروبية الأخيرة، ويبدو أن الجهويات ستمر من ذات المسار بفوز شبه مؤكد لليسار، مشيراً في هذا الصدد إلى اختلالات هيكلية وسياسية في الطريقة التي يدير بها حزب ساركوزي الحملة، وهي طريقة تصلح عادة لانتخابات رئاسية، ولكن فشلها مؤكد في الاستحقاقات التشريعية والجهوية تحديداً.
السلام... بين الأقوال والأفعال
صحيفة لوموند خصصت افتتاحية لتحليل أبعاد استفزازات إسرائيل ومساعيها للتشويش على زيارة نائب الرئيس الأميركي إلى المنطقة، فعلى رغم أن الهدف الأول لزيارة بايدن هو إعادة إطلاق محادثات سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد 15 شهراً من انقطاع كافة أشكال التفاوض بين الطرفين، لم تجد تل أبيب طريقة أخرى لـ"الترحيب" بالزائر الأميركي الكبير سوى إعلان وزارة الداخلية الإسرائيلية في اليوم نفسه عن انطلاق العمل لبناء 1600 وحدة سكنية في القدس الشرقية المحتلة، في استفزاز فج للفلسطينيين والأميركيين على حد سواء. وبطبيعة الحال فقد أدان بايدن هذا التصرف مؤكداً أنه "يقوض الثقة" اللازمة لإعادة إطلاق محادثات السلام، ولا يمكن إلا أن يبعد الفلسطينيين عن طاولة المفاوضات. والحال أن هذا التدبير الاستفزازي يظهر بجلاء مدى تصلب اليمين الإسرائيلي الحاكم فيما يتعلق بمسألة الاستيطان تحديداً، وتنكره المكشوف لكافة التزاماته السابقة لواشنطن بوقف مؤقت للأعمال الاستيطانية في الضفة الغربية. وهي التزامات أظهر الآن أنه لا يقرن الأقوال فيها بالأفعال. كما يظهر هذا الاستفزاز، في الوقت نفسه، تقول لوموند، مدى ضعف إدارة أوباما، التي كانت قد انطلقت بإعلان المطالبة القوية بوقف كامل للاستيطان، لتقبل فيما بعد من نتنياهو وقفاً جزئياً فقط. ولأن إسرائيل لم تظهر أي ندم أو طلب صفح على استفزازها، بما يسمح بطي هذه الصفحة، فإن عباس، على الجانب الفلسطيني لا يملك ترف تجاهل هذا الاستفزاز الإسرائيلي، ولن يكون في مقدوره العودة للتفاوض وكأن شيئاً لم يكن. وهنا يصطدم حصان التسوية بالعقبة الإسرائيلية، بشكل مأساوي، وللمرة الألف. وتختم لوموند افتتاحيتها باستخلاص الدرس مما جرى، مؤكدة أن يصب في مجمله وتفاصيله في حقيقة تتوالى المؤشرات تباعاً تأكيداً لها: إن هذا الملف لم يعد ذا أولوية بالنسبة لإدارة أوباما. وتحت عنوان "استفزاز إسرائيلي" سطّر الكاتب بيير روسلين في افتتاحية صحيفة لوفيغارو قراءة مشابهة، مؤكداً أن المبادرة الاستيطانية الإسرائيلية، التي صدرت تزامناً مع زيارة بايدن، تدل على أن مفاوضات التسوية حتى لو أعيد إطلاقها، فستكون فرص نجاحها شبه معدومة. غير أن الكاتب انتقد أيضاً الإدانة المتأخرة والمحسوبة جداً التي صدرت عن بايدن، في مواجهة التحدي الإسرائيلي الصارخ، معتبراً إياها إدانة محتشمة وغير كافية. ولكن إذا حكمنا بمؤدى الإدانة القوية التي صدرت عن الصحافة الإسرائيلية تجاه سلوك حكومة نتنياهو، فإن هذا الاستفزاز يمكن أن يرتد أيضاً سلباً على من دبروه في تل أبيب، على اعتبار حجم ما ألحقوه من ضرر بعلاقات إسرائيل مع الولايات المتحدة. وهنا يكشف روسلين عن الطرف الحقيقي الذي يرفع قفاز التحدي في وجه بايدن اليوم، ألا وهو العناصر الأكثر تشدداً بين غلاة المتطرفين اليمينيين في تل أبيب، وهي العناصر ذاتها التي تمسك بحقيبة وزارة الداخلية الإسرائيلية. ولهذا التحدي أيضاً بُعد داخلي آخر لا يقل خطورة، هو محدودية سيطرة نتنياهو على تيارات ضمن التشكيل الحكومي اليميني الذي يتزعمه. وهي تيارات لا تضمر أصلاً لعملية السلام واستحقاقاتها أي ود. وأخيراً اعتبر روسلين أن استغراق أذهان الساسة الأميركيين في انتخابات التجديد النصفي في الكونجرس في نوفمبر المقبل هو تحديداً ما يجعل قدرتهم على الضغط على إسرائيل تقف عند حدودها الدنيا، وهنا المأزق الحقيقي الذي يتهدد محاولة إعادة إنعاش عملية التسوية في الشرق الأوسط.
درس الانتخابات العراقية
أكد الكاتب إيفان ريوفول في مقاله بصحيفة لوفيغارو أن ما انتهت إليه الانتخابات العراقية الأخيرة كذَّب بشكل واضح مزاعم خصوم بوش، الذين طالما رددوا، منذ ربيع 2003، أنه يستحيل غرس تجربة ديمقراطية، بالطريقة التي أرادها بوش، في مجتمع إسلامي، بذات الكيفية التي تم بها فرض الديمقراطية في اليابان وألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن ها هي الوقائع تصب في الاتجاه المعاكس لمزاعم مناهضي بوش، يقول الكاتب، فالانتخابات في العراق تتلو الانتخابات، والتجربة تترسخ، شيئاً فشيئاً. وينسب الكاتب بدايات هذا النجاح السياسي لخطة الجنرال ديفيد بترايوس التي سمحت باحتواء التمرد، وإن كان أيضاً لا يفوت الفرصة في تأكيد استلهام بترايوس لعناصر النجاح في خطة مكافحة التمرد من ضابط فرنسي توفي سنة 1968 هو المقدم ديفيد جاليلا، مؤلف كتاب "ضد التمرد"، الذي نشر 1963، وأصبح ضمن مقررات الأكاديميات العسكرية الأميركية. ومن هذا الكتاب توصل بترايوس إلى أهمية المزاوجة بين الجهدين العسكري والسياسي للقضاء على التمرد، بل إنه أكد على ضرورة ألا تتجاوز الأعمال العسكرية نسبة 20 في المئة من الجهد الحربي، على أن تترك النسبة الباقية للجهد السياسي. ومن هذه الرؤية تمكن الجنرال الأميركي من عزل التمرد، ما مهد تالياً لتكريس التجربة الديمقراطية في العراق. وفي سياق متصل، نشرت لوفيغارو أيضاً افتتاحية بعنوان "درس الانتخابات العراقية" أثنت خلالها بقوة على الأجواء التنافسية التي جرت فيها عملية الاقتراع، وما أدت إليه من صعوبة تنبؤ بشكل المؤسسات المقبلة التي سيتمخض عنها هذا الاستحقاق، مشيرة إلى أن تجذر الديمقراطية لا يقف عادة عند حدود عملية إلقاء أوراق الاقتراع في صناديق التصويت بل لابد أن تمتد أيضاً إلى مرحلة ما بعد فرز الأصوات، من خلال دعم المؤسسات المنتخبة للاضطلاع بدورها، لكي تصبح تعبيراً حقيقياً عن إرادة الناخبين.
إعداد: حسن ولد المختار