لا شكَّ أنّ المزاج الشعبيَّ العربيَّ حائرٌ وكئيب. والسببُ الظاهرُ أو المُباشرُ لذلك ما حدث ويحدث في الملفّ الفلسطيني أو ملفّ الصراع الإسرائيلي العربي. فقد استقرّ في أخلاد الجمهور والمثقفين أنّ المفاوضات لا أملَ فيها إذا كان المقصود استعادة الحقّ الفلسطيني والعربي. بيد أنّ هذا المزاجَ الظاهرَ أو المباشرَ ليس كافياً لتعليل حالة الكآبة التي تنقلبُ ثَوَراناً في الكثير من الأحيان. وبخاصةٍ في البلدان العربية البعيدة نسْبياً عن فلسطين مثل المغرب العربي والسودان واليمن. ففي أكثر تلك البلدان، والتي يمكن أن يجيبك ابنُ الشارع على سؤالك عن سبب سُخْطه بالقول إنّ السبب هو ما يحدث في فلسطين ومن حولها؛ لكنّ الساخط لن يمضي معكَ لمطالبة دولته بالنضال في فلسطين؛ بل سينصرفُ بعد اللمحة الأُولى للحديث عن عشرات المشاكل والانسدادات التي تدفعُهُ لليأس من السلطات وسلوكاتها، ولن تكونَ بينها مسألة فلسطين. وخيرُ مثالٍ على ذلك ما حدث في شمال اليمن ويحدث منذ سنوات، حيث يرفعُ من سُمُّوا بالحوثيين شعاراتٍ ضد الولايات المتحدة وإسرائيل؛ لكنهم عندما تفاوضوا مع حكومتهم أخيراً ما ذُكرت فلسطين لديهم على شفةٍ أو لِسان. والمحتجُّون في جنوب اليمن، يُصرّحون بإرادة الانفصال لانتفاء العدالة في دولة الوحدة، رغم أنهم لا يملكون مشروعاً لدولةٍ أخرى باستثناء ما كانوا عليه قبل عام 1990، وهو نظامٌ هرب منه معظمُهُم أو جميعهم دونما ترددٍ في مطلع تسعينيات القرن الماضي. إنّ خُلاصةَ ما أردتُ الوصولَ إليه من هذا التمهيد، أنّ هناك كثرةً كاثرةً في معظم الدول العربية تريد التغيير، وقد تسعى إليه، لكنّ البدائل ليست واضحةً في الأذهان أو في التصرفات. وقد مضى على المثقفين العرب زُهاء العقدين من الزمان، وهم يضعون آمالهم في نشاطات "المجتمع المدني" وفعالياته. ويفهمُ معظمُهُمْ من هذا المصطلح ليس الأحزاب السياسيةَ بالتحديد؛ بل الهيئات والجمعيات التي قامت وتقومُ بخليطٍ من الأعمال الخيرية والأُخرى شبه السياسية، تحت العنوان السحري: التنمية البشرية أو الإنسانية. بيد أنّ هذه الموجةَ التي حفلَ بها العقدُ المُشارفُ على الانتهاء، توشكُ أن تستنفد قوتَها أو طاقتَها أيضاً، ولصالح نموذجٍ آخر انقسامي، دشّنه "حزبُ الله" في لبنان، وطبّقتهُ حركةُ "حماس" في غزّة منذ عام 2007. وقد أَلْهى اتصالُ التحركين أو النموذجين بالمسألة الفلسطينية بشكلٍ مباشرٍ أو شبه مباشر، عن الدلالات الخطِرة للنموذج الجديد على التماسُك الداخلي للمجتمعات العربية، وأخطاره ومآزقه بالنسْبة للدولة أو الدول القائمة. وزاد من الوهم والإيهام بحيث لم تتضح الدلالات ُالبعيدةُ كما يجب، الحديثَ الكثيرَ عن الافتراقات الطائفية أو المذهبية أو الإثنية أو الجهوية. والواقعُ أنّ فلسطين غطاء، كما أنّ الانقسامات المذهبية والطائفية غطاءٌ آخَر. أمّا الواقعُ فهو الميلُ للاستغناء عن الدولة أو تجاوُزها بسبب العجز عن إحداث التغيير، أو استسهال إقامة السلطات المُوازية، باعتبارها الحلَّ السحْريَّ أو البديل عن العمل على إصلاح الدولة أو النظام. ولدينا على ذلك أمثلةٌ سابقةٌ على نموذج "حزب الله" و"حماس"، في الصومال والسودان، وفي عدة بلدانٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ مثل أفغانستان وباكستان. ففي الصومال، لا تبدو الأكثرية مهتمةً أو حريصةً على استعادة الدولة ونظامها، وفي السودان (وتشاد وباكستان ونيجيريا.. إلخ) تظهر سلطاتٌ محليةٌ أو إقليميةٌ في مُوازاة السلطة المركزية بالقوة أو بالفعل، بغضّ النظر عمّا إذا كان في ذلك حلٌّ أو إراحةٌ للناس مقارنةً بما آلت إليه الأُمور في دولتهم أو نظامهم. وقد تحدث الأنثروبولوجيون في النصف الأول من القرن العشرين عن "مجتمعاتٍ بدون دولة"، لكنهم اعتبروها مجتمعاتٍ بدائية كانت قائمةً في قلب القارة السوداء، وما تزال لها آثارُها حتى اليوم. ومن الجليّ أنّ الآليات في السلطات المُوازية تتنوعُ، لكنها تلتقي أخيراً على الهدف النهائي: الانفصال عن الدولة المركزية ضمناً أو عَلَناً. ولجهة الآليات فقد انتهجت "حماس" مَثَلاً نهجاً عنيفاً بحيث أنشأت دُويلةً انفصلت تماماً عن السلطة المركزية الفلسطينية وبالقوة. أمّا "حزب الله" فأقام سلطةً موازيةً لسلطة الدولة المركزية في لبنان، وترك للدولة القائمة مسائل المعيشة والخدمات، وأبقاها تحت تهديد الاعتداء أو الانفصال إن لم تقبل بالوضْع المستجدّ والقائم. وهذا ما حاوله الحوثيون وإن لم يصلوا لهدفهم عَلَناً، إنما المقدّر أنهم سيظلون تنظيماً قائماً في مُوازاة السلطة المركزية، شأن التنظيمات القَبَلية المحلية باليمن، والتي مضى على وجودها قرون. وربما يصلُ الأمر إلى هذه الحدود في جنوب اليمن مع "الحراك الجنوبي"، إن توافرت للمتذمِّرين قيادةٌ موحَّدةٌ مثلما هو الحال لدى "الحوثيين" و"الحماسيين" وجماعة "حزب الله" و"طالبان" والعُصَب الصومالية والدارفورية. هل هي عودةٌ إلى الحالة الأنثروبولوجية أو حالة اللادولة؟ الواقعُ أنّ الظاهرة جديدة، وما كانت في الماضي. ففي الماضي العربي والإسلامي، وحتى عندما تقوم سلطات سياسية متعددة على الأرض الواحدة؛ يظلُّ المجتمعُ موحَّداً، وينتهي الأمر بظهور سلطةٍ جديدةٍ وقويةٍ تُلْغي السلطات الأُخرى، وتُثبّتُ الوحدة الاجتماعية، على الطريقة الخلدونية. أمّا ما نشهدُهُ اليومَ، فهو عكسُ ذلك تماماً. بمعنى أنّ الانقسام الاجتماعي يحصُلُ ويتفاقمُ، فيأتي الذين يبلورون الانقسام ويقودونه، وتنشأ السلطة الموازية تحت شعاراتٍ لا علاقةَ لها بأسباب الانقسام أو مآلاته. ولطالما صنعت القضيةُ الفلسطينيةُ الهائلة حركاتٍ وقياداتٍ خارج فلسطين والفلسطينيين أكثر مما صنعتْه بداخلها وداخل الفلسطينيين. وها هي السلطات العربيةُ التي صنعتها انقلاباتُ العسكريين بحجة فلسطين، ما تزالُ بعضُ هياكلها قائمةً وموروثةً، دون أن يتذكر أحدٌ أنها قامتْ من أجل فلسطين، وكان ينبغي أن تسقط عندما تفشل في اجتراح حلٍ عادلٍ للقضية. لكنّ التطور الذي أتحدثُ عنه مختلفٌ عمّا كان يحصل بالوطن العربي إبّان الحرب الباردة. فقد كان الغضبُ على السلطة المركزية، يدفع الجمهور أو العسكريين لتغييرها والحلول محلّها. والذي يحصل منذ عقدٍ أو عقدين: ظهور انقساماتٍ شعبية داخل المجتمع، تصطنع سُلُطاتٍ موازية وانفصالية بالعنف أو بالإرغام أو بما هو دونهما، وتبقى السلطة المركزية ضعيفةً وفاقدةً للشرعية إلى جانبها! وهناك فرقٌ آخَرُ، ففي المرحلة السابقة، كانت السلطة الانقلابية الجديدة تنتظمُ بعد فترةٍ، أو منذ البداية، في سلك أو تحت مظلة أحد طرفي الحرب الباردة، أمّا هذه الأيام، ولأنّ الطموحَ أقلّ، أو أعظم، فيكفي أن تدعم السلطة أو السلطات الموازية جهةٌ إقليميةٌ لكي تبقى، وتتحول إلى ظاهرةٍ طبيعيةٍ لها مبرراتُها ودواعيها التي لا تحتاجُ إلى سقفٍ أو مظلةٍ كبيرةٍ، وإنما تكتفي بالانقسام الذي تقودُهُ، وبالجهة الإقليمية التي تظلِّلها، بفلسطين أو بدون فلسطين. ثم إنّ الاستظلال بفلسطين ما عادت له صدقيتُه. فحركاتُ التحرير الفلسطينية فيما بين ستينيات وثمانينيات القرن الماضي، كانت تؤذي إسرائيل بالفعل بالهجمات، وبحمل قضية الشعب الفلسطيني إلى العرب والعالم. أمّا اليوم، فأين هو الإيذاءُ الإسرائيلي من جانب "حماس" وغيرها، ما دامت تلك الحركات تقول إنها لن تُهاجم إسرائيل إلاّ إذا هاجمتْها! إنّ لدينا إذن ظاهرةً جديدةً في العالم العربي، وبعض بلدان العالم الإسلامي المضطربة، وهي ظاهرةُ السلطات المُوازية، والتي تستندُ في قيامها إلى انقساماتٍ اجتماعيةٍ أو حركاتٍ "ما دون دولتية". وتملك تلك الحركاتُ والتحركات خطاباً ثورياً إسلامياً. وهي مختلفةٌ عن "القاعدة" أو السلفية الجهادية. إذ إنّ هذه الحركات هي حركاتٌ محليةٌ، وهي ترفعُ شعاراتٍ كبرى، لكنها تؤولُ إلى استيلاءٍ على جهةٍ أو أرضٍ تُمارسُ عليها سلطتها، وقد لا تسعى إلى إسقاط السلطة المركزية والحلول محلّها كما في الانقلابات المعروفة. بل إنها تسعى لتعميق الانقسام واستمراره عبر معارك داخلية، والضغط على الأمن والتواصُل المجتمعي والسياسي، أو عن طريق معارك خارجية حدودية، لزيادة شرعيتها أو مبررات وجودها. وهذا خَطَرٌ جديدٌ يُهدّد من جهةٍ فكرة الدولة المركزية، ويُهدّد من جهةٍ أُخرى وحدة المجتمعات العربية واستقرارها.