ضغوط العلاقات البريطانية - الإسرائيلية
بصرف النظر عن توجهات الحزب السياسي الحاكم في بريطانيا، فإن من عادة الوزراء البريطانيين أن يفعلوا غالباً كل ما بوسعهم من أجل الحفاظ على علاقات متينة بين بلدهم وبين إسرائيل. وعلى رغم أن الكثافة السكانية لإسرائيل تقدر بنحو 7 ملايين نسمة فحسب، أي أنها أقل نسبياً من عدد سكان دولة مثل هندوراس أو بلغاريا، فلا سبيل لإنكار قوة التأثير السياسي والاستراتيجي التي تتمتع بها تلك الدولة الصغيرة.
وفيما يتصل بعلاقاتها الخارجية، فمن المعروف أن إسرائيل تعتبر قوة نووية، وهي صاحبة الجيش الأقوى عتاداً حربياً في منطقة الشرق الأوسط، بينما يعمل مكتب علاقاتها الخارجية عادة على محاولة ترويج وجهات نظرها بشأن عملية السلام الإسرائيلي الفلسطيني، عن طريق جهود ومحاولات حثيثة لإقناع صانع القرار الغربي بتبني وجهة نظر متفقة مع وجهة النظر الإسرائيلية. ومنذ نشأتها ظلت إسرائيل تحافظ على علاقة قوية مع الولايات المتحدة الأميركية أيضاً، بل إن من شأن أي تدهور في العلاقات بين تل أبيب وواشنطن، أن يفوق قدرة إسرائيل على التحمل ويجعلها تشعر بأنها قد حشرت في الزاوية الحرجة.
أما في مجال السياسة الداخلية، فإن لإسرائيل أدوات ضغط تستطيع العمل بقوة. ويقول الإسرائيليون أيضاً إن بلادهم دولة ديمقراطية وتنفق على أحزابها السياسية وتخصص مبالغ مالية ضخمة لدعم حزب "العمل" والأحزاب اليمينية المحافظة المعارضة سواء بسواء. وحتى في بريطانيا نفسها، هناك قواعد ناخبة هامشية خاصة باليهود، بينما يعرف عن بعض القواعد الناخبة الأخرى، لاسيما في شمالي لندن، أن أصوات الناخبين اليهود فيها تعد ذات أهمية حاسمة، وتحظى بأقوى درجات التنظيم.
ومن هنا وحتى حلول موعد إجراء الانتخابات البريطانية العامة المقبلة، التي لم يبق يفصلنا عن انعقادها سوى بضعة أسابيع فحسب، فلا يزال جوردون براون في منصبه الحالي في رئاسة الوزراء، مع العلم أنه يعتبر تقليدياً حليفاً قوياً لإسرائيل، وهو يتفوق في تأييده لها على سلفه في المنصب بلير. كما يعرف عن والده أنه كان شخصية قوية النفوذ، وكان رئيساً للجنة إسرائيل التابعة لكنيسة إسكتلندا. كما يعرف كذلك عن وزير الخارجية الحالي في حكومة براون، ديفيد ميلباند -وله شقيق آخر في الحكومة نفسها، هو "إيد"- أن له خلفية يهودية.
وعلى هذه الخلفية ثارت قضيتان رئيسيتان احتلتا محوراً رئيسياً في الحوار العام في بريطانيا مؤخراً. أولاهما التهديد باعتقال الساسة والجنرالات العسكريين الإسرائيليين عند زيارتهم لبريطانيا. ففي السادس عشر من ديسمبر الماضي نشرت الصحف اللندنية خبراً عن إلغاء تسيبي ليفني، زعيمة المعارضة الإسرائيلية حالياً، ووزيرة الخارجية سابقاً، زيارة لها كانت تعتزم أن تتحدث فيها في مناسبة أقامتها الجالية اليهودية البريطانية. ولم يتضح بعد السبب الذي دفعها فجأة لإلغاء تلك الزيارة، غير أن محكمة في "ويستمنستر" أصدرت أمراً باعتقالها على خلفية تهم تتعلق بمشاركتها في ارتكاب جرائم حرب أثناء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة.
وقد تناقلت الصحف خبر أمر الاعتقال ذاك باعتباره مؤشراً على أزمة دبلوماسية ستنشأ بين بريطانيا وإسرائيل. وعلى سبيل المثال، جاء عنوان رئيسي في صحيفة "ديلي تلجراف" بهذه الصيغة: "العلاقات مع إسرائيل باتت في خطر". والحقيقة هي أن انتهاكات إسرائيل وسلوكياتها الخاطئة المزمنة بدأت تثير ردود أفعال دولية معارضة لها في نهاية الأمر. وهناك من اعتقد أن أمر الاعتقال المذكور قد أصدره محامون مؤيدون للفلسطينيين وآخرون متعاطفون مع حركة "حماس"، مقيمون في لندن، وجميعهم من الناشطين باسم ضحايا الغزو الإسرائيلي لقطاع غزة.
من جانبها ردت وزارة الخارجية الإسرائيلية على أمر الاعتقال بالقول: "تدعو حكومة إسرائيل الحكومة البريطانية إلى الوفاء بوعودها ومنع إساءة استخدام النظام القانوني البريطاني وتسخيره ضد إسرائيل ومواطنيها من قبل عناصر معادية لها".
وقد خيّل للصحافة البريطانية لبعض الوقت، أن الحكومة ستسارع إلى تعديل القانون الذي يسمح للمواطنين بالحصول على مذكرات توقيف بحق أفراد ارتكبوا جرائم ضد مواطنيهم خارج الحدود البريطانية. ولكن مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات العامة هنا، فإنني أرى أنه من غير المرجح أن تغامر الحكومة بلمس هذه المسألة الحساسة، خاصة في وقت لا تسود فيه حالة مزاج مريح في أوساط قواعد حزب "العمال". وعليه، فقد أعلن رسمياً عن تأجيل النظر في هذه المسألة إلى مرحلة تعقب إجراء الانتخابات العامة، وهو ما يثير غضب إسرائيل بالطبع. ومن ناحيتها هددت ليفني بالقدوم إلى بريطانيا لمواجهة أمر الاعتقال وإحراج حكومة لندن. غير أن جاك سترو، وزير العدل الحالي، ووزير الخارجية سابقاً، تحدث إلى عدد من أقرانه في مجلس الوزراء، قائلاً لهم إن هذه مسألة حساسة ذات تأثيرات واسعة، وينبغي عدم التسرع في البت فيها.
وفي هذه الأثناء حدث تطور آخر، أثار القضية الثانية في العلاقات بين بريطانيا وإسرائيل. والمقصود هنا استخدام عناصر من الموساد -جهاز الاستخبارات الإسرائيلي- لجوازات سفر دبلوماسية مزورة، للدخول إلى دبي واغتيال المبحوح. يذكر أن جهاز الموساد سرق هويات 12 مواطناً بريطانياً يقيم معظمهم في إسرائيل. كما استُخدمت جوازات سفر أفراد أوروبيين آخرين من بلدان مثل ألمانيا وإيرلندا في عمليات مشابهة. وهو ما دعا وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي إلى شجب هذا السلوك الإسرائيلي بشدة في أحد اجتماعاتهم التي ناقشت هذا الأمر.
وكان مليباند قد وصف إسرائيل قبل بضعة أسابيع فحسب، بأنها "شريك استراتيجي قوي" لبريطانيا. غير أن الحكومة البريطانية اتخذت موقفاً حازماً من مسألة المستوطنات، ومن المنتجات التي صدّرت إلى بريطانيا بطريقة غير مشروعة من تلك المستوطنات. وليس في وسعي أن أتصور ألا يكون رئيس الوزراء براون، ووزير خارجيته مليباند، قد أعربا عن استيائهما -ولو سراً- من سياسات نتنياهو، ووزير خارجيته اليميني المتطرف، أفيجدور ليبرمان. كما يجب القول إن تقرير "جولدستون" الذي أعده قاض يهودي بارز عن الانتهاكات التي ارتكبتها إسرائيل أثناء اجتياحها الأخير لقطاع غزة، قد دق أجراس الإنذار بقوة في بريطانيا.