في الأسبوع الماضي، أحيت جامعات عبر العالم فعاليات "أسبوع التنديد بالأبارتايد الإسرائيلي"، والهدف من هذه الفعاليات هو "المساهمة في المعارضة الدولية لواقع الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل". وقد شارك مثقفون إسرائيليون أيضاً في هذه الفعاليات الثقافية والإعلامية طيلة أسبوع بجامعات في أكثر من 40 مدينة عبر العالم؛ ولكن الحدث تعرض أيضاً لانتقادات، من قبل الجماعات الموالية لإسرائيل التي وصفته بأنه مناوئ للصهيونية. وليست تلك الجماعات هي وحدها من يخطئ توصيف اتجاه البوصلة حين يتعلق الأمر بإسرائيل وممارساتها، بل إن القادة الإسرائيليين أيضاً ما زالوا رازحين في تصورات بعيدة عن الواقع. ففي مقابلة أجرتها مؤخراً صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، قدم نتنياهو رؤيته للمستقبل على النحو التالي: "إن إسرائيل كرائدة عالمية في التكنولوجيا، تسير نحو السلام من موقع قوة، قويةً بتجدد الشعور بالهوية ومتشبعةً بالقيم الوطنية". ولعل الجزء الأخير من رؤية نتنياهو هو أكثر ما هوجم فيها، إذ وُصف باعتباره محاولة لإنقاذ الصهيونية، في حين زعم أحد المراقبين الإسرائيليين أن ذلك الهجوم إنما "هو هجوم على القيم التي تشكلنا وتميزنا". ولكن إذا كانت الصهيونية هي القيمة الأساسية التي شكلت وميزت المجتمع الإسرائيلي، فإن الأمر يحتاج، استطراداً، إلى توضيح الأسباب التي جعلتها تتعرض لهذا الهجوم القوي؟ الواقع أن الصهيونية، كحركة قومية يهودية، قامت على فكرتين اثنتين: أ- الزعم بأن اليهود سيظلون دائماً ضحايا للتمييز ولن يتم أبداً قبولهم بالكامل كمواطنين متساوين في مجتمعاتهم، وذلك، كما زعم الصهاينة الأوائل، لأن معاداة السامية أبدية ولا يمكن القضاء عليها. ب- أن الحل الوحيد لهذه المعضلة اليهودية هو أن يقوم الشعب اليهودي -بغض النظر عما كان يعنيه هذا المفهوم في ذلك الوقت- بتنظيم نفسه كأمة ضمن دولة ذات حدود معروفة. ولكن منذ البداية واجهت الصهيونية تحديات جمة، ومن ذلك أن معظم اليهود كانوا إما غير مهتمين بالإيديولوجية الصهيونية أو معارضين لها، خشية تعريض حقوقهم المكتسَبة حديثاً في مجتمعاتهم للخطر. وإضافة إلى ذلك، كانت هنالك المهمة الصعبة المتمثلة في إيجاد مكان لإقامة دولة يهودية فيه. وهنا فكر الزعماءُ الصهاينة الأوائل في أوغندا والأرجنتين وقبرص قبل أن يستقر رأيهم في الأخير على فلسطين نظراً لجاذبيتها العاطفية لليهود. ولكن فلسطين كانت مسكونة، و90 في المئة من سكانها كانوا من الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين، كما أن اليهود الأورثوذكس الذين كانوا يعيشون هناك كانوا يعارضون بقوة إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين. وقد التفَّ الزعماء الصهاينة الأوائل على هذه الصعوبات عن طريق استعمال الخداع الممنهج وحملة دعاية ماكرة. وأثناء تحركهم عبر دهاليز السلطة الأوروبية من أجل حشد الدعم لمشروعهم، زعموا أن الصهيونية تحظى بدعم وتأييد أغلبية اليهود -والحال أنها لم تكن كذلك- وزعموا أن هدفهم هو إقامة وطن في فلسطين بدون المساس بحقوق السكان المحليين -وكان هذا تمهيداً للوعد الذي قدمته بريطانيا في "إعلان بلفور" عام 1917. ثم جرى اختزال حملة الدعاية الصهيونية في شعار مضلل واحد هو: "أرض بدون شعب لشعب بدون أرض". وتحت مظلة الاحتلال العسكري البريطاني لفلسطين، وفي تجاهل لحقوق الشعب الفلسطيني الذي يشكل الأغلبية، تم تحويل البنية الديمغرافية في فلسطين؛ وبحلول 1948، كان الصهاينة قد حققوا الإنجاز الجهنمي المتمثل في إقامة دولة إسرائيل. وبغض النظر عن قيمة الإنجازات التي قيل إن هذه الإيديولوجية حققتها للشعب اليهودي إلا أن الصهيونية لا يمكنها أن تفلت من تهمة كونها إيديولوجيا إقصائية إحلالية قامت على طرد الفلسطينيين وسلب أرضهم -وهي ممارسة ما زالت مستمرة إلى اليوم بالأفعال والأقوال. والواقع أن الإيديولوجيا الإقصائية الإحلالية التي تقوم عليها الصهيونية تكمن أيضاً فيما يسمى "قانون العودة" الذي يضمن ألا تكون إسرائيل دولة لمواطنيها، وإنما ينص على أنها دولة لليهود أينما وُجدوا. ويتحقق ذلك عبر منح اليهود من أي مكان في العالم حقوقاً يحرم منها الفلسطينيون، وهو ما أدى إلى إصدار الأمم المتحدة لعدد من الإعلانات التي تساوي بين الصهيونية والعنصرية. وفي إسرائيل ما بعد 1948، بررت الصهيونية التطهير العرقي والطرد والتوسع الترابي والاستئصال. وفي إسرائيل ما بعد 1967، بررت الصهيونية الاحتلال وغذت فكرة "أرض إسرائيل" المزعومة. ويجادل البروفيسور يوسف بن شلومو من جامعة تل أبيب بأن فكرة "أرض إسرائيل" ماتت في أوسلو، لأن "الاتفاقات" لم تشر إلى الحقوق "التاريخية" للشعب اليهودي في "أرض إسرائيل". والحال أنه لا يوجد شيء اسمه "الحقوق التاريخية"؛ نعم، ثمة روابط تاريخية، ولكن الحقوق التاريخية ليست مبدأ معترفاً بها في القانون الدولي؛ وعلى هذا الأساس، فإنها لا يمكن أن تكون أساساً لمفاوضات السلام مع الفلسطينيين. وبغرض وقف سقوط هذا الركن الأساسي (والقديم والمتجاوَز) من أركان الصهيونية تحديداً، أنشأ أعضاء حزب "الليكود" في "الكنيست" مجموعةَ "أرض إسرائيل" التي يدعمها كل أعضاء الحزب في "الكنيست" ووزراء باستثناء مايكل إيتان ونتنياهو والوزير دان ميريدور؛ حيث تسعى المجموعة إلى تعزيز قبضة إسرائيل على كامل الضفة الغربية. غير أن إيتان أشار مؤخراً إلى أن: "المرء لا يستطيع أن يضلل الناس دائما ًويتحدث عن إسرائيل الكبرى". وفي قراءة جوشوا كوهين النقدية للكتاب الذي ألفه "إسحاق لاوور" بعنوان "أساطير الصهيونية الليبرالية"، وهي القراءة المنشورة بعدد يناير من مجلة "هاربرز"، نقل عن "لاوور" قوله إن أسطورة الصهيونية الليبرالية قد تآكلت ودارت حول نفسها. وعليه، فإن الصهيونية كإيديولوجيا إقصائية ما زالت لها صلة ربما بالطابع اليهودي لإسرائيل (من خلال التمسك بممارسات "قانون العودة") الذي يريد نتنياهو من الفلسطينيين أن يعترفوا به. غير أن ثمة جوانب أخرى للصهيونية؛ فتيودور هرتزل، الذي يعد مؤسس الصهيونية السياسية، كان يزعم أنه "داخل فكرة الصهيونية يوجد التطلع إلى الكمال الأخلاقي والروحي". وبالتالي، فإن تعريف الهوية الوطنية الإسرائيلية على أساس الإيديولوجيا الإقصائية وسلب الأراضي والمفارقة التاريخية والاستئصال والاحتلال والإحلال هو أكبر خيانة لمثل هذا التطلع، إن صح أصلاً. إن حقوق الإنسان تمثل أساساً أفضل لهوية وطنية متشبعة بالقيم الديمقراطية. كما أنها تمثل ضمانة أفضل لخطاب إيديولوجي أكثر ملاءمة مع زمننا هذا، مكيف مع الحاضر وموجه للمستقبل، مستقبل السلام والقبول المتبادل.