الأخلاق والعمل السياسي!
بداية علينا أن نعلم أن الأخلاق نتاج اجتماعي، ينبثق عن المجتمع، فيتمظهر على شكل قواعد وضوابط، يتعين على الفرد التقيد بها استجابة منه لمتطلبات المجتمع. وبوسعنا القول إن الأخلاق كخصلة، ليست هبة من أحد، ولم يَجُدْ بها عقل مفكر، وليست مغروسة في الإنسان منذ الولادة، وغالبا ما لا تملك الطابع المادي الرادع، فضلا عن أنها ليست شيئا ثابتا. فهي كما قلنا صناعة اجتماعية، تتغير بتغير المجتمع.
وفي اعتقادي أن الاعتماد على الجانب الأخلاقي وحده في اختيارنا للمسؤول الحزبي أو الوظيفي، غير كاف، بل حتى غير مجد. وكما أوضحت الدراسات، فإن الإنسان بشكله المكوّن أو المتبلور، ليس إلا مجموعة من العلاقات الاجتماعية، وبتغيرها يتغير. لا أعتقد أن الأخلاق ضابط وضامن لسلوك الفرد، ويمكن بالتالي الاكتفاء بها والركون إليها، وهذا لا ينفي الوازع الأدبي الذي تملكه الأخلاق، لكنه كما قلت وازع أدبي وحسب.
لابد إذن من ضوابط تتحكم بكل هؤلاء، ويمتثل لها الجميع بلا استثناء، وهذه الضوابط تملك من القوة المادية ما تتيح لها فرض قوانينها على الجميع، بحيث يمتثلون لها دون استثناء.. الإنسان كثيرا ما تحركه غرائزه باتجاه فرض هيمنته على الآخر، سواء أكان هذا الآخر حزبا سياسيا أو قطاعا اجتماعيا، فإذا لم تكن هناك من قوة رادعة له، فهو لن يرتدع أخلاقيا، ولن يتورع عن الإيغال في الخطيئة.
ويحضرني هنا قول أحد الرعايا المسلمين للخليفة أبي بكر الصديق: "والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا"، رداً على قول الخليفة، بعد أن ولي أمر المسلمين: "إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني". فمثل هذا القول يجسد قوة رادعة تمكّن الرعية من جعل أولي الأمر يستقيموا، مختارين أو مرغمين.
أما المثالية في التناول، فغير محبّذة وغير مجدية البتة، كقولنا: فلان جيد، فليته شغل الموقع الفلاني بديلا عن علان السيئ... مثل هذا التفكير يشكل ضرباً من التواكل غير المفيد، فلا بد إذن من ضوابط تقوّم العلاقات، عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أعقلها وتوكل".
أبداً، لا يجوز تناسي إغراء الموقع السياسي الذي يمكن أن يدفع باتجاه الأنانية والذاتية المفرطة.
ربما يثير أحدنا تساؤلات مشروعة، حول وجود أشخاص يلتزمون بالقواعد الأخلاقية دون ضغط أو إكراه... أقول: نعم إنهم موجودون، لكنهم قلة ولكل قاعدة استثناءات. فمثل هؤلاء، ربما يراقبون حركة التاريخ، ويدركون مساره، ثم يناصرون المآل المفضي إلى السيرورة التاريخية، عندما يقرؤون حلول أوان أفول الطبقة المسيطرة. يقول ماركس وإنجلز: "إن تبدل الشخص نفسه، يترافق في النشاط الثوري مع تحول الظروف"، أي أن تغير الظروف ينجم عنه تبدل الشخص نفسه.
كثيرا ما تكلمنا عن الضوابط وكأنها أمر نتفق حول مفهومه أو تعريفه، أو كأنها شيء ملموس نتحسسه، والحقيقة أن تلك الضوابط لا تظهر إلا في ميدان الصراع، بل هي وليدة الصراع. فالذي يمتلك القوة يهيمن ويفرض أجندته على الآخر، رغم الغبن الذي يحسه هذا الآخر، وفي مرحلة لاحقة تتوازن القوى لدرجة ما، ويشعر القوي أنه صار يفقد سطوته تدريجيا، رغم إحساسه بأن الحق خلاف لما كان يفرضه على الآخر، لكن بعد أن تتعادل نسبيا موازين القوى، وتفقد الهيمنة الفردية أساسها المادي.
وخلال ذلك يتثقف الناس، فلا يعودوا يسكتون عن الخطأ، بل يدعون إلى محاسبة المسيء، لتتحول الضوابط إلى قواعد تتجسد بقوة، يتفهمها الناس، ويتقبلها الجميع.
------
دهام حسن
ينشر بترتيب خاص مع مشروع "منبر الحرية"