الشرط التعليمي للارتقاء
لا شك أن تعزيز التعليم الوطني واللغة العربية، من خلال برنامج عمل للسير في هذا الطريق، من شأنه أن يضعنا في موقع مميز في سوق المنافسة العالمية. وهذا أمر تؤكده غالبية الأبحاث والتجارب والنماذج التنموية الحديثة، لأن مشكلات المأزق التنموي بالنسبة لكثير من دول العالم حالياً إنما تكمن في إيجاد تعليم "نابع من الذات" وتحويله إلى سلاح فاعل ومنتج وقابل للتصدير... تعليم يحافظ على التقدير والثقة في الشخصية الوطنية بما تمتلكه من مقومات فكرية ولغوية وثقافية وحضارية.
ونحن في دولة الإمارات يمكن أن يكون لنا منهجنا التربوي المستقل والمثمر، والذي يرتكز في جوهره على اللغة، وباقي عناصر الهوية الوطنية والحضارية، مع التركيز على شروط النجاح والفاعلية والنجاعة والانفتاح.
ومن تلك الشروط توفير كل الوسائل اللازمة للعمل على إيجاد مقومات جادة للفكر التربوي الحديث، والتي تسهم في خلق فكر منهجي، استنتاجي وتحليلي، عند الطالب، حتى يكون قادراً على الإبداع والابتكار وممارسة النقد الذاتي وامتلاك الفكر المستقل، خاصة وأن المستقبل سيكون فقط للأمم التي لديها مبتكرون ومخترعون وأصحاب فكر مميز وحاصلون على جوائز عالمية. وباعتراف كل مفكري النظرية التربوية وخبراء التعليم ومؤرخي التجارب التنموية... فإن الطالب لا يمكن أن يصل إلى درجة الإبداع والابتكار والتميز، إلا إذا كانت المادة التعليمية باللغة الأم.
وفي هذا الإطار يلزم أيضاً دعم التوجه نحو إيجاد معاهد ومراكز للأبحاث، يتركز عملها على توجيه صانعي السياسة التربوية إلى الطرق الأصلح والأنجع، ومساعدتهم على اتخاذ القرار السليم على أسس علمية ومنهجية، والعمل على دفع حركة التطور التعليمي في مسارها الصحيح دائماً، وتحويل الفكر التطبيقي والخبرات الميدانية إلى خطط تدعم سير البناء التربوي، وترفد جهود استشراف المستقبل التعليمي.
ولا يمكن الاستغناء عن دعم سياسة "التعريب" في مراحل التعليم المختلفة، حيث أن غالبية الدراسات والتجارب تؤكد أنه لا مجال لنهوض أمة من الأمم إلا بالاعتماد على لغتها القومية في مجالات التعليم والبحث. ومن ذلك دراسات أجريت مؤخراً في مصر، أوضحت إحداها مطبقة على طلاب كليات الهندسة والطب والصيدلة والعلوم في جامعتي القاهرة وعيش شمس، أن التفوق كان من نصيب الذين يدرسون العلوم باللغة العربية.
ويشار في هذا الصدد إلى أن لتوانيا التي لا يتجاوز عدد سكانها مليوني نسمة، وتعتمد لغتها القومية (اللتوانية) في التعليم، أصبحت تضيف لساحة العلم العالمية أكثر مما يضيفه العرب مجتمعين (350 مليون نسمة)، وكذلك فلندا (5.2 مليون) التي تعتمد لغتها القومية في التعليم.
وفي هذا الخصوص أيضاً يتوجب دعم سياسة الترجمة وإعطاءها الأولوية وجعلها صناعة كاملة شاملة، كما في الدول المتقدمة، وتوفير الكفاءات البشرية القادرة على العمل في هذا المجال. والظروف مهيأة في كثير من الدول العربية لتمكين الترجمة من لعب دور على غرار ذلك الذي لعبته في أيام المأمون والأمين، وفي عصر محمد علي. وبذلك تكون الترجمة مصدر تغذية للتعليم والتربية وتطوير النشاط البحثي في كافة المجالات.
وكما نعلم، فإن التعليم هو العامل الحاسم في كسر حلقة التخلف، وهو القادر على تحقيق حلم الارتقاء والنهضة، وتوسيع القاعدة الإنتاجية في المجتمع. فإذا أردنا اللحاق بالدول الصناعية المتقدمة، يلزمنا التعامل مع شروط الارتقاء، وعلى رأسها الاهتمام بالتعليم وسياساته، وأن نلبي جميع المتطلبات العلمية والمادية والفكرية والبشرية التي يفرضها هذا الارتقاء، مع ضرورة الحفاظ على خصوصية المجتمع وثقافته ولغته.
وهنا يلزم التأكيد مرة أخرى على دور التعليم الوطني، بلغته ومناهجه، في الوصول إلى ذلك الارتقاء. فلا يمكن للتعليم الأجنبي أن يحل محل التعليم الوطني، ولا يمكن للغة الأجنبية أن تأخذ مكان اللغة الأم.