أمّا أن تطرح مسألة الهوية، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الشعوب والأمم، كلما كان هناك تحدٍّ أو شعور بالتهميش... إلخ، فهذا شيء طبيعي جداً. إنه أسلوب من أساليب تأكيد الذات، الفردية أو الجماعية، وإعادة ترتيب علاقاتها بمحيطها من أجل إثبات الوجود وتحقيق الاستقرار والطمأنينة. وأما أن تطرح مسألة الهوية على مستوى الدول ومن منظور الحفاظ على خصوصية الأنا الفردي (العرق) أو الجمعي (الهوية الوطنية) فهذا ما يبدو أنه ظاهرة جديدة يجب البحث عن أسبابها وعوامل كونها وظهورها! إذا نحن ركزنا انتباهنا في الجهة أو الجهات التي تطرح اليوم، أكثر من غيرها، هذا النوع من الطرح لمسألة الهوية وجدنا على رأسها بعض البلدان التي تستقطب وتجذب العمالة من خارج أرضها بسبب أن سكانها لا يوفرون لبلادهم ما تحتاجه من أيدٍ عاملة في مختلف القطاعات، وبالتالي تعاني اليوم مما يسمى "مشكل الهجرة" بعد أن كانت الهجرة إليها، إلى وقت قريب، لا ينظر إليها على أنها مشكل على صعيد الهوية الوطنية، بل على أنها ضرورة من ضرورات بناء الوطن وإعادة البناء ومواصلة السير على طريق التقدم والرقي. وإذا حصرنا نظرنا في محيطنا الحضاري/التاريخي (العالم العربي وأوروبا) وجدنا أن الجهتين اللتين يصدق عليهما هذا "التوصيف" هما منطقة الخليج من جهة، وأوروبا الغربية من جهة أخرى. تياران من الهجرة في عالم اليوم، يُنظر إليهما من طرف الجهة التي يفِد اليها المهاجرون بوصفهما يهددان الهوية الوطنية (وفي جوفها الهوية الفردية): تيار الهجرة إلى الخليج، وتيار الهجرة إلى أوروبا. التيار الأول يُنظر إليه على أنه بات يهدد الهوية الوطنية بالذوبان وسط "مجمعات سكانية" وافدة، متعددة الجنسيات، تجعل من سكان البلاد الأصليين أقلية وسط وافـدين من جنسيات متعددة مختلفة. إن ديموغرافيةِ بلدانِ الخليج تجعل من الهوية الوطنية فيها هدفاً يصعب الإمساك به، خصوصاً أن كل البلدان لا يتصور الهوية ولا يطلبها إلا ضمن حدود سياسية بين أوطان. هذا الواقع الذي صنعته وتصنعه الهجرة إلى الخليج يجد أساسه في الثروة النفطية التي تتوافر في أقطاره والتي تمارس دورين مختلفين: دور جاذب للمستثمرين وللعمالة من كل جهة، ودور دافع لأهل كل قطر إلى الانكماش حول الذات، مع الحرص في نفس الوقت، على الحفاظ على وضعية "الآخر الذي تتعرف الأنا عبره على نفسها". إنه وضع إشكالي لم يستطع أهل الخليج تجاوزه رغم جميع الشعارات الوطنية/القومية، الوحدوية، بدءاً من شعار "العروبة" الذي وفد عليهم من خارج عَراقتهم كعرب، وانتهاء بـ"مجلس التعاون الخليجي". الخليجيون جميعهم عرب أصلاء، ولكنهم يشعرون اليوم بأن "الهجرة"، والحاجة الدائمة إليها، تؤثر على هويتهم وقد تهدد مستقبل أبنائهم، في أهم مقومات شخصية آبائهم وعناصر حضارة أسلافهم: لغةً وتقاليدَ ورؤى. ذلك عن تيار الهجرة إلى بلدان الخليج وعلاقته بمشكل الهوية فيها، أما تيار الهجرة إلى أوروبا، وأوروبا الغربية تحديداً، فيجب التمييز فيه بين ثلاث لحظات (أو مراحل): في اللحظة الأولى كانت الهجرة إليها من مستعمراتها مطلوبة، منذ بديات القرن الماضي، وذلك لتلبية حاجات التطور الصناعي والعمراني في "القارة العجوز". أما في اللحظة الثانية فقد أضحت الهجرة إليها مطلوبة لإعادة بناء ما هدمته الحرب العالمية الثانية ومواصلة التعمير والتصنيع، وفي جو من التنافس مع المعسكر الشيوعي أثناء الحرب الباردة. وتأتي اللحظة الثالثة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانفصال دول شرق أوروبا عنه وجنوحها إلى الارتباط بدول أوروبا الغربية وتبني نظامها الليبرالي... إلخ. وهكذا أصبحت الهجرة إلى أوروبا اليوم تتم عبر تيارين: الأول ينطلق من دول شرق أوروبا بالتحديد، وقد كان وما يزال محل ترحيب، أو على الأقل موضوع قبول. والثاني ينطلق من جنوبها (من إفريقيا والعالم العربي)، ولكن هذه المرة، ليس كهجرة مطلوبة بل كهجرة ترى فيها شرائح عديدة في المجتمعات الأوروبية تهديداً لهويتها. وقد تنامى هذا الشعور بعد أن أصبح المهاجرون أجيالا ثلاثة (تبعاً للحظات الثلاث التي ذكرنا)، وصار كثير منهم يحملون "الجنسية القانونية" للبلد الذي يقيمون فيه (خاصة في فرنسا) مما جعل المواطنين في تلك المجتمعات صنفين: مواطنين بالهوية الوطنية ومواطنين بالجنسية القانونية. لقد طُرحت هذه الثنائية على العموم للنقاش في فرنسا خاصة، حيث أثير مشكل "الهوية الوطنية" من طرف اليمين، ليس المتطرف منه فحسب، بل والمعتدل منه ويمين اليسار كذلك. وقد انخرطت الدولة في هذا الطرح حين أنشأ ساركوزي في حكومته وزارة جديدة تحت عنوان "وزارة الهجرة والإدماج والهوية الوطنية". وقد طلب الوزير المشرف على هذه الوزارة مؤخراً من الشعب الفرنسي خوض "نقاش واسع" خلال شهرين (من 2 يناير إلى 28 فبراير 2010) حول الهوية الوطنية الفرنسية، محدداً موضوع النقاش في سؤال رئيسي من شقين هما: "بأي معنى يجب أن يُفهَم اليوم كونُ الفرنسي فرنسياً؟ وما هو نصيب الهجرة في الهوية الوطنية" الفرنسية. (انظر مقالا لنا في هذا الركن، بتاريخ 10-01-2010)؟ وسؤال الوزير الفرنسي يكشف -في أحد أبعاده- عما يسميه الفلاسفة بـ"شقاء الوعي": وهو أن يحب الإنسان الشيء ويكرهه في الوقت نفسه، فيكون في "مشاقة مع نفسه": الفرنسي يريد أن يكون فرنسياً قحاً، والهوية الوطنية الفرنسية يجب ألا تضم إلا الفرنسيين "الأقحاح"! لكنَّ هذا الفرنسي لا يستطيع الاستغناء عن المهاجرين، ولا يستطيع إسقاطهم من مكونات وجوده، لقد أصبحوا جزءاً من هذا الوجود يحملون ورقة تعريف (هوية) مكتوب عليها "فرنسي الجنسية". كان ذلك جانباً واحداً من المشكلة. إنه يتعلق فقط بما فرضه الماضي كأمر واقع، أعني الموجات السابقة من الهجرة. لكن هناك ما يفرضه المستقبل أيضاً، ومن الآن!... والكلام فيه في المقال القادم.