إن أخطر ما يصيب الثقافة هي الأفكار الشائعة التي تربى عليها الناس جيلا وراء جيل، طبقا لما يُلقن لهم في المدارس والإعلام والفنون والآداب، واستمرار هذه الأفكار الشائعة دون التحرر منها وتوجيه النقد لها بعد حصول وعي حضاري آخر بناءً على وقائع جديدة. والخطورة أعظم عندما تقوم على هذه الأفكار الشائعة ليس فقط مفاهيم وتصورات ورؤى، بل أيضا سلوكيات واتجاهات وسياسات. فالخطأ النظري سرعان ما يتوجه إلى خطأ عملي. وهذا بالضبط ما حدث في موقف العرب خاصة والمسلمين عامة من الدولة العثمانية، دولة الخلافة. فقد استمد القائمون على إنجاز الكتب المدرسية، في مادة التاريخ الحديث، تاريخ الخلافة من كتب المستشرقين الأوروبيين الذين يمثلون مصالح بلدانهم ويعملون على تحقيقها باسم العلم والبحث العلمي والدراسة التاريخية. وقد بالغ هؤلاء في تشويه الخلافة العثمانية وتكبير مساوئها، من أجل إعطاء المبرر للانقضاض عليها والانتهاء من قصة "الرجل المريض". لقد أوحوا للعرب بأنها دولة استعمارية، وأن عليهم أن يتحرروا منها، وسيساعدهم الإنجليز. وهو دور اطلع بجانب أساسي فيه "لورانس العرب"، ضابط المخابرات البريطاني الذي ساعد العرب في هجومهم على العقبة، وصوروا عليه الأفلام، وروجوا لكتابه "أعمدة الحكمة السبعة"، مشيدين بمدى عظمته وتقدمه، مقابل تخلف العثمانيين وأساطيرهم وخرافاتهم. فالقومية العربية هي الحل للتحرر من استعمار العثمانيين من أجل تفتيت الدولة مما اضطرهم إلى تعليق المشانق لهم في دمشق دفاعا عن وحدة الدولة ضد حركات الانفصال والخروج عليها أسوة بالأرمن والأكراد. وسموا ذلك مذابح الأرمن، والدفاع عن الأقليات. ومازال هذان الاتهامان مستمرين حتى الآن، بما يترتب عليهما من مطالبة لتركيا بالاعتذار للأرمن، وبحل المشكلة الكردية بقطع جزء من الدولة والاستمرار في تفتيتها. ونـُقلت لنا صورة، ساهم المؤرخون العرب في صنعها، وخلاصتها أن نظام الوالي التركي نموذج للقهر والتسلط والاستعباد والكرباج وتعذيب الفلاحين. وبدأت تظهر في اللغة العربية ألفاظ عربية تركية للشتم والإهانة في الاستعمالات الشعبية، مثل "خسيس"، أو تدل على الطاعة مثل "أفندم". ونظام الملتزم كان لا يبغي إلا جمع الضرائب من الفلاحين وإرسالها إلى الباب العالي، حتى ولو تم ذلك بالضرب والتعذيب والسجن. فالحكم التركي نموذج القهر والتخلف والتعصب والجهل وسوء الإدارة. وظهر في الأمثال العامية الفرنسية تعبير "رأس تركي" أي الجاهل المتعصب؛ فهو استعمار واحتلال باسم الدين. والسلطان يعيش في اسطنبول عيشة اللهو والبذخ. كما انتشرت الأغاني التركية الشعبية مثل "أمرك يا سيدي"، "أمان"، "يالاللي". لم نتعلم في المدارس أن القوى الغربية، لاسيما انجلترا وفرنسا، كانت تريد تقطيع دولة الخلافة، والتهامها جزءا بعد الآخر، وهو ما تم بالفعل بعد الحرب العالمية الأولى عندما خسرت تركيا الحرب مع ألمانيا ضد القوى الغربية. كما لم نلاحظ أننا استبدلنا استعمارا باستعمار. لم نتعلم أن الأسطول التركي دافع عن الجزائر غربا ضد محاولات فرنسا المتكررة لغزوها حتى تم ذلك في عام 1830، كما دافع عن أواسط آسيا شرقا ضد الامتداد القيصري من موسكو وانتشار المد اللينيني لابتلاع الجمهوريات الإسلامية المستقلة. وتركت القلاع والمنشآت العسكرية في كل مكان. لم ينس لها الغرب الوصول إلى أبواب فيينا. ومازال عداؤه قائما في مذابح البوسنة والهرسك وكوسوفو على أيدي الصرب. لم يستقر في وعينا القومي أنها هي التي بنت قطار الشرق السريع بالتعاون مع ألمانيا، من برلين إلى بغداد، ربطا للغرب بالشرق، وقطار الحجاز ربطا للشمال بالجنوب، والشام بشبه الجزيرة العربية. وقامت بالتنظيمات والمؤسسات الحديثة. وأنشأت مراكز العلم. وكثير من أسماء المدارس في مصر، مثل "كتخدا" و"أغا"، والآثار والعمارة الإسلامية... شاهد على إنجازات الدولة العثمانية. وفي عهدها نشأت أكبر حركة لتدوين العلوم القديمة في موسوعات ضخمة كما تشهد على ذلك أعمال طاش كبرى زادة، وحاجي خليفة، وإسماعيل باشا. كانت هناك ثلاثة اختيارات أمام الدولة العثمانية لإصلاحها. الأول العثمانيون الذين كان يمثلهم أبو الهدى الصيادي من سوريا والذين يريدون البقاء على الدولة العثمانية كما هي. فهي حصن الإسلام والمسلمين، ونفعها أكثر من ضررها. والخلافة استمرار في التاريخ دون قطيعة معه. والثاني الإصلاحيون الذين كان يمثلهم جمال الدين الأفغاني ورفاقه، وقد أرادوا هم أيضا الاستمرار في الخلافة، لكن مع إصلاحها من عيوبها الداخلية، كالقهر والفساد والتخلف ودسائس السلطان، بنظم ديموقراطية دستورية. والثالث جماعة الاتحاد والترقي، وهم أنصار القومية الطورانية، ومنهم مصطفى كمال والذين يودون القضاء على الخلافة وإتباع النظم الغربية الحديثة، لاسيما الدولة القطرية الدستورية الآخذة بأساليب العلم الحديث ووسائل التقدم التي أخذت بها الأمم الغربية. وكسب العلمانيون الرهان على هذا الخيار الثالث وألغيت الخلافة، وقام أتاتورك بتحرير تركيا من الغزو اليوناني الذي كان قد وصل إلى أبواب أنقرة، فخسر العثمانيون الإصلاحيون. الفعل يؤدي إلى رد الفعل، والنقيض يؤدي إلى النقيض. ثم يهدأ العنف التاريخي عندما تظهر عيوب الطرف الآخر (العلمانية)، كما ظهرت عيوب الطرف الأول (الخلافة). والآن وبعد ثمانين عاما، أي بعد جيلين، تبدأ في تركيا مراجعة النفس. فتقليد الغرب انتهى إلى طريق مسدود. لم ينفصل الشعب التركي عن تراثه ولم يقطع معه، بل ظل قابعا في القلب خائفا من العسكر. ولم يقبل الغرب تركيا وسطه كعضو في الاتحاد الأوروبي. يكفيه أنه عضو في "الناتو". يعطي الغرب أكثر مما يأخذ. ويعيب على تركيا شرقيتها وإسلاميتها وأسيويتها ولغتها وتقاليدها وهويتها. فبدأ رد فعل مضاد بالعودة إلى الإسلام صراحة، في حزب "الرافاه" بقيادة أربكان الذي تلقفته الجماعات الإسلامية وأعطته نفسها منبرا والتاريخ لم يكن قد نضج بعد، فاستطاع العسكر إقصاءه. ثم استطاع حزب "العدالة والتنمية" أن يستثمر التجربة السابقة ويحول الإسلام إلى مضمون وليس إلى شعار. مضمون لا يستطيع العلمانيون مخالفته لأنه مضمونهم؛ الحرية والديمقراطية والعدل والمساواة، بالإضافة إلى الاستقلال. بدأ بالابتعاد عن الغرب كونه ليس الخيار الوحيد، والابتعاد عن إسرائيل تضامناً مع شعب فلسطين وحقه المهضوم، ودفاعا عن كرامة تركيا ودورها التاريخي. وبدأت في التحول إلى بعدها الإقليمي التاريخي؛ الوطن العربي والعالم الإسلامي، وإعادة التوازن في سياستها الدولية بين الشرق والغرب. وتم تحييد الجيش، وإخضاعه للدستور، وإلزامه بالاحتكام إلى القضاء. وتركيا اليوم وسيط إقليمي عادل بين إسرائيل وفلسطين، وإسرائيل وسوريا للانسحاب من الأراضي المحتلة، وبين إيران والولايات المتحدة تجنبا لتعريض الأولى إلى حرب. فتحت حدودها مع سوريا، ولبنان، والأردن، والعراق في الطريق. وأعطت "اليسار الإسلامي" معنى عمليا جديدا. وبينت إمكانية نجاحه كمشروع قومي. إنما الكرة الآن في الملعب العربي، خاصة حارس مرماه، مصر، لتنشيط خيالها السياسي في إقامة تجمع إقليمي ثلاثي، تركيا وإيران ومصر، من أجل رد إسرائيل إلى حجمها الطبيعي بدلا من أن تقوم بدور الدولة الكبرى في المنطقة. ويتطلب ذلك إعادة النظر في مصير الدولة القطرية، وفي مفهوم القومية العربية، وفي مفهوم العالم الإسلامي، وإعادة التوازن بين الشرق والغرب، وإيجاد عالم متوسط جديد كما كان الحال في الستينيات إبان حركة التحرر الوطني الأولى. هذا ليس دفاعا عن الدولة العثمانية، فقد انقضى عهدها، والتاريخ لا يعود للوراء. وليس دفاعا عن "العثمانيين الجدد"، لكنه إكمال لحركة الواقع من منظور مستقبلي قائم على خبرة الماضي.