يحاول كتاب "الفكر السياسي الإيراني"، لمؤلفه سلطان محمد النعيمي، الإجابة على عدد من الأسئلة المتعلقة بهذا الفكر، والمتصلة بطبيعته وجذوره وروافده ومراحل تطوره... فيقول في معرض بيانه حول التطور التاريخي لهذا الفكر، إنه خلال مرحلة الإمبراطورية الفارسية ظلت أسس العلاقة بين الحاكم والمحكوم قائمة على تقديس الملك بوصفه تجسيداً للسلطتين السياسية والدينية. أما بعد دخول الإسلام إلى إيران، وانطلاقاً من الاعتقاد الموروث بالحق الإلهي في السلطة، فقد "وجد الإيرانيون في سلالة الحسين ورثة لملوكهم الأقدمين ولتقاليدهم القومية"، فظلت شرعية السلطة الإلهية للأئمة الإثني عشري مسيطرة على أدبيات الفكر السياسي الشيعي، كما فرض استقاء شرعية السلطة من نائب الإمام الغائب (الولي الفقيه)، على الأنظمة الملكية المتعاقبة في إيران أن تتودد للمؤسسة الدينية سعياً لنيل ذلك المسوغ الشرعي لسلطتها. وتجلى ذلك بصفة خاصة في العهود التي اتخذت من التشيع مذهباً دينياً وسياسياً لها، كما هو الشأن بالنسبة للدولة الصفوية. فقد أحدث تبني الصفويين للمذهب الشيعي الإثني عشري حراكاً فكرياً أفرز "جدلية التفويض الشرعي من قبل الفقيه للسلطان الصفوي بوصفه نائباً عن الإمام المعصوم، وهي جدلية دفعت بدورها إلى تناول قضايا وإشكاليات مثل شرعية الحكومة في زمن الغيبة، وطبيعة وحدود العلاقة بين الفقيه والسلطة. ويوضح المؤلف أنه رغم انحسار دور المدرسة الاجتهادية في أواخر عهد الدولة الصفوية وصولا إلى بداية العصر القاجاري، فإنها كانت العامل الأهم في تطور الفكر السياسي الشيعي الإيراني، وصولا إلى لحظة بروز الحركة الدستورية عام 1906، والتي مثلت رافداً جديداً غذى ذلك الفكر ودفعه لتناول قضايا لم تكن مطروقة من قبل، سعياً لمواكبة مستجدات الواقع الداخلي والخارجي. وهكذا ظهرت إيديولوجيات الفكر السياسي الحديث، الليبرالية والماركسية وغيرهما، لتضيف إلى تطور الفكر السياسي الإيراني وتثري روافده خلال العهد القاجاري ثم حقبة الحكم البهلوي، وهي المرحلة التي شهدت تطوراً فكرياً ملموساً، لاسيما في مجال نظرية ولاية الفقيه وتوسع صلاحياتها، كما عرفت صعوداً متنامياً لقوة المؤسسة الدينية. تلك الروافد والعوامل والتطورات، هي ما يعتقد المؤلف أنها أفضت إلى أبعاد حديثة وتقليدية داخل الفكر السياسي الإيراني، دفعت نحو مرحلة جديدة ستكون بدايتها مع الثورة الإسلامية عام 1979. فبعد نجاح الثورة وسقوط نظام شاه بهلوي، اتجهت إيران والفكر السياسي الإيراني إلى آفاق مختلفة، منها انتفاء دواعي الوحدة التي شهدتها البلاد بين كثير من أطيافها الثورية حين تناست تبايناتها الفكرية والإيديولوجية لتتوحد جميعاً من أجل إسقاط نظام بهلوي. لكن الانقسامات والتباينات بدأت في الظهور على السطح، بينما أصبح النظام خاضعاً تماماً لنظرية ولاية الفقيه، وأصبحت جميع مؤسساته تستقي شرعيتها من تلك النظرية. ورغم أن معظم الاتجاهات داخل نظام الجمهورية الإسلامية دافعت عن نظرية ولاية الفقيه، فإنها سرعان ما اختلفت حول قضايا أخرى، ثم بدأ بعضها يبتعد عن النظرية ذاتها حين أصبح في سدة السلطة. وفيما يعتبر المؤلف أنه يمثل مؤشراً مهماً على دور المصلحة كمحدد في تلك المواقف والرؤى، يقول إن سيطرة اليسار الديني على السلطة خلال السنوات الأولى من عمر الثورة، وتأييد الخميني له، دفعت إلى تلاقي مصلحة هذا التيار مع تأييد ولاية الفقيه، باعتبار أن ذلك يضمن لها الاستمرارية والتأييد من أعلى سلطة في النظام والاستفادة من التأييد الشعبي للخميني، فرفض هذا التيار تقنين سلطة الخميني وتأطيرها بالدستور. بينما طالب اليمين الديني - نظراً لارتباطه الوثيق بالبازار ورفضه سيطرة الدولة على الاقتصاد - بتقنين سلطة الولي الفقيه وتأطيرها دستورياً، وعارض ولاية الفقيه المطلقة. لكن بعد خروج اليسار الديني من السلطة ووفاة الخميني، ووصول خامنئي إلى منصب المرشد العام، فرضت تلك المستجدات واقعاً جديداً دفع بتلك القوى إلى إعادة النظر في مواقفها السابقة، فحدث نوع من تبادل الأدوار بين اليمين واليسار الدينيين. غير أن إعادة النظر تلك لم تكن خروجاً عن أطر الفكر السياسي الشيعي وثوابته الرئيسية، حيث تبنى اليسار الديني نظريات سياسية تؤكد أصالة الإمامة في السلطة، وتعطي للشعب دوراً في منحها الشرعية. وهكذا يتحدث المؤلف عن ثلاثة اتجاهات في إيران ما بعد الثورة؛ اليسار الديني، واليمين الديني، والاتجاه الوطني. وقد حدث انزياح في الرؤى الفكرية لتلك الاتجاهات وتقاربت مواقف بعضها خلال العقد الثاني في عمر الثورة، وهو تقارب تجسد في التحالف الواسع الذي جمع اليسار الديني مع اليمين الوسط (الاتجاه الثاني) بالقوى الليبرالية (الاتجاه الثالث) فيما عرف بتكتل الثاني من خرداد عام 1997، أي لدى فوز خاتمي برئاسة الجمهورية، حيث بدأ استخدام مصطلحي "المحافظون" (الاتجاه الأول)، و"الإصلاحيون" (الاتجاهين الثاني والثالث). وما ذلك الاستخدام إلا امتداد لثنائيات طبعت الفكر السياسي الإيراني منذ وقت طويل، مثل الاتباع والاجتهاد، الأصالة والمعاصرة، النص والعقل، التقليدية والتجديد. محمد ولد المنى الكتاب: الفكر السياسي الإيراني المؤلف: سلطان محمد النعيمي الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2009