إسرائيل إذ تنزع "ثياب" شرعيتها!
منذ قامت في عام 1948، تتلفح إسرائيل بكافة الألبسة والحجب لتجميل صورتها. ومنذ صدور تقرير "جولدستون"، وهي تسعى لتقليص الضرر الذي أصابها بعد أن أدركت أن إحدى معاركها الخارجية باتت مع الرأي العام العالمي الذي تابع على شاشات التلفاز مشاهد القتل والتدمير الذي تعرض له المدنيون وأملاكهم في عدوان "الرصاص المسكوب" على قطاع غزة. والحال كذلك، أطلقت الدبلوماسية الإسرائيلية حملة في مسعى لاحتواء الآثار "الضارة والسلبية" لحملتها العسكرية ضد القطاع، خاصة بعد توجيه الاتهام لمسؤولين إسرائيليين رفيعي المستوى بارتكاب جرائم حرب. وكما جاء على لسان الجنرال "أمير إيشل"، رئيس قسم التخطيط في جيش الاحتلال، فإنه "لا تجوز الاستهانة بتقرير جولدستون، فالمعركة على الرأي العام العالمي لا تقل ضراوة عن المواجهة العسكرية"، مقرا في ذلك بأن "إسرائيل تواجه أزمة شرعية بعد عدوانها على غزة"، ومضيفا في الوقت نفسه: "إن مسألة شرعية إسرائيل مهمة جدًا، لأننا لا نعيش في فراغ".
منذ قيامها، ظلت إسرائيل تخشى هاجس التهديد الوجودي المترافق مع العقيدة العسكرية التي تقضي بشن الحروب، لذا سعت لامتلاك قوة ردع "مطلقة"! لكن الأمر اختلف أولا في حرب لبنان 2006، وثانياً في الحرب على القطاع 2008-2009، إذ جاءت النتائج عكسية. فشنها هاتين الحربين جعلها تواجه "تهديداً" خاصا، ألا وهو نزع الشرعية عنها، وهو تهديد لا يمكن مواجهته بالسلاح، ولم يأت من دول عدوة، بل من عالم غربي طالما وقف إلى جانبها في "الحق" والباطل. وفي هذا يقول "ناتان شارانسكي" رئيس الوكالة اليهودية: "تواجه إسرائيل حملة عالمية ترمي إلى نزع الشرعية عنها. إنها حرب حقيقية تهدد مصالحنا الاستراتيجية، وينبغي الرد على كل ضربة بضربة".
مركز "رؤوت"، وهو "جمعية متخصصة بدعم التفكير الاستراتيجي للحكومة الإسرائيلية في المجالات الاستراتيجية والأمنية والرفاهية والتنموية"، يوجز في تقرير تم توزيعه على كافة وزراء حكومة نتنياهو أن إسرائيل "تواجه حملة عالمية لنزع الشرعية عنها ترمي إلى عزلها وتصويرها ككيان استعماري"، داعياً الحكومة إلى عدم تجاهل "الانتقادات المشروعة"، ومحذراً من أنها "باتت تقف أمام (شبكة دولية) تستهدف نزع الشرعية عنها"، مطالبا الحكومة بـ"التعامل مع هذه المسألة كتهديد استراتيجي حقيقي"، مضيفا أن "تصوير إسرائيل على أنها شيطان يرمي إلى إنكار شرعيتها وتقديمها بشكل كيان استعماري مرتبط بممارسات نازية وبتمييز عنصري". وتتخذ هذه "الشبكة" -وفقا للتقرير- تجربة التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا والنضال العالمي ضدها نموذجاً لنزع الشرعية عن إسرائيل: "مقاطعة البضائع الإسرائيلية في عدد من أسواق أوروبا، ومقاطعة جامعات مهمة، بريطانية وأوروبية للجامعات الإسرائيلية، مطاردة الساسة والعسكريين الإسرائيليين في العواصم الأوروبية خاصة لندن... كلها نماذج من تعبيرات نجاح هذه الشبكة في مسعاها الهادف إلى نزع الشرعية عن إسرائيل". ويواصل التقرير متهما "شبكة عالمية من أفراد وجمعيات ومنظمات غير حكومية (دولية) موالية للفلسطينيين، وعربية أو مسلمة على علاقة في غالب الأحيان مع اليسار، وقاسمها المشترك هو تقديم إسرائيل على أنها دولة منبوذة، وإنكار حقها في الوجود".
لقد حدد التقرير العواصم البريطانية والبلجيكية والإسبانية، إضافة إلى مدينة سان فرانسيسكو الأميركية وجامعة بركلي... كأبرز أماكن تواجد الشبكة العالمية، مدعياً أنها تتكون من شبان مهاجرين "فوضويين"، إضافة إلى "نشطاء سياسيين متطرفين، عددهم غير كبير لكنهم يعززون تأثيرهم عبر الحملات الدعائية المنسقة". وحسب التقرير، فإن الشبكة الدولية هذه تتعاون مع منظمات تعمل في المناطق الفلسطينية المحتلة "توجه انتقادات مشروعة لإسرائيل مثل منظمة أمنيستي إنترناشيونال ومنظمات حقوق الإنسان الأخرى. وتعمل الشبكة من خلال هذا التعاون على إزالة الفوارق والخطوط بين الانتقاد المشروع ونزع الشرعية الأساسية عن دولة إسرائيل". وفي الختام، أشار التقرير إلى عدم جهوزية إسرائيل لمواجهة تهديد نزع الشرعية؛ لأن "وزارة الخارجية الإسرائيلية ما زالت تعتبر أساليب المواجهة هي تلك التي كانت سائدة في ستينيات القرن الماضي، وتعاني نقصاً في الدبلوماسيين القادرين على مواجهة التحديات الجديدة".
الغريب أن التقرير لم يشر إلى وزير الخارجية شديد التطرف (ليبرمان) الذي قالت عنه الصحف الإسرائيلية مؤخراً، إن وجوده في هذا المنصب، يدعم توجهات سلبية لدى الرأي العام العالمي، وكذلك عند الدول الصديقة بما فيها الولايات المتحدة. وكنموذج واضح على ما تقوله الصحف (ويضيق المجال عن ذكر غيره اليوم) يقول "أري شافيت" في مقال بعنوان "وزير نزع الشرعية"، إنه قد تشكل في السنة الأخيرة "تحالف واسع من القوى الراديكالية استخدم حملة الرصاص المسكوب كي يسود وجه إسرائيل، كما استغل الاحتلال كي ينزع الشرعية حتى عن إسرائيل السيادية. وقد حشر إسرائيل في الزاوية وجعلها دولة شبه منبوذة. وجراء ذلك فقد تضررت أعمال وأنشطة إسرائيلية (كثيرة) وتآكلت قدرة إسرائيل على استخدام القوة للدفاع عن نفسها ووصلت فكرة الدولتين القوميتين إلى شفا الانهيار". ويضيف الكاتب: "تحدي نزع الشرعية كان التحدي الوجودي الذي يستدعي تغييرا شاملا في إسرائيل. بعد نصف قرن كان فيه التشديد الاستراتيجي عسكريا، فإن عليه أن يعود لأن يكون سياسيا. على وزارة الخارجية أن تتبنى فكرة عمل الموساد والشاباك وتقود معركة سياسية إعلامية مركبة وذكية لم نشهد لها مثيلا منذ 1947. ولكن ثمة مشكلة: في قيادة الخارجية يقف اليوم وزير يشدد أزمة الشرعية لإسرائيل. وزير لا يمكنه أن يعطي حلا لمشكلة هو جزء منها. ليبرمان، يخدم أولئك الذين يسعون إلى تصوير إسرائيل كدولة عنصرية ومجنونة".
هذا، ونختم مع الكاتب الأميركي اليهودي "لينارد فين" مؤسس مجلة "اللحظة" في مقال بعنوان "هناك شبح يخيم على إسرائيل اسمه جولدستون"، حيث يقول: "لست متأكداً مما يعنيه سحب الشرعية عن إسرائيل. هل يعني ذلك أن منتقدي إسرائيل يسعون لإزالة الدولة اليهودية؟ ببساطة، هناك من يفعلون ذلك. إلا أن الغالبية الكبرى من هؤلاء الذين ينتقدون إسرائيل بشكل متزايد (وهنا أفكر بالذات بالاتحاد الأوروبي) لا يلمحون حتى بإنهاء الدولة اليهودية. الواقع هو العكس تماماً. فهم ينادون، وبشكل أكثر إلحاحاً بتطبيق حل الدولتين. والواقع أن حل الدولتين هو الأسلوب الوحيد لضمان بقاء الدولة اليهودية".