يمكن القول دون مبالغة إن جميع الانتخابات التي أجريت في العراق في فترة ما بعد الاحتلال كانت تمثل منعطفا حاسما. فالانتخابات التي أجريت بداية عام 2005، قوطعت من قبل السنة وتلتها حالة من الاستقطاب الطائفي المتزايد وأحداث العنف الدامية. والانتخابات الثانية التي أجريت في نهاية نفس العام، شهدت مشاركة من كافة طوائف الشعب العراقي، لكن الخوف والقلق، جعل كل طائفة من تلك الطوائف تصوت لمرشحيها بما في ذلك من كانوا يعتبرون أنفسهم "علمانيين". الانتخابات الثانية، على وجه التخصيص، مثلت نجاحا نسبيا حيث ترتب عليها تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، كما منحت الطوائف العراقية الرئيسية تمثيلا في أفرع الحكومة الثلاثة التنفيذية والتشريعية والقضائية. وحاولت الجماعات الإرهابية زعزعة الاستقرار في العراق، عبر شن هجمات مدمرة كالهجوم الذي دمر المسجد الذهبي في سامراء عام 2006، وأدى إلى تفجر العنف الطائفي بين العرب الشيعة والسنة، وإلى موجة عنف دفعت البلاد نحو شفير الحرب الأهلية. والانتخابات المزمع إجراؤها في السابع من مارس الحالي ستمثل هي كذلك اختبارا جديدا وصعبا للتجربة الديمقراطية العراقية. والسؤال الذي يتردد الآن: هل سيتقدم العراقيون أكثر ويبنون على التقدم المتحقق، والدخول في منافسة انتخابية موضوعية، أم أن البلاد ستنتكس وتعود إلى الطائفية والمنافسة السياسية القائمة على العنف؟ حتى فترة قريبة، كانت كافة الاتجاهات في العراق إيجابية، حيث تقلصت التوترات الطائفية والعنف إلى درجة كبيرة، كما أظهرت استطلاعات الرأي العام في الشهور الأخيرة زيادة في الدعم للأحزاب والائتلافات غير الطائفية، كما أصبح العراقيون ينظرون إلى المستقبل بقدر أكبر من التفاؤل. والحقيقة أن بعض الفضل في ذلك يرجع للمالكي، والزعماء السنة في محافظة الأنبار. فبالإضافة إلى الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة لتعزيز الأمن، شن المالكي حملات ساحقة على المليشيات الشيعية وفرق الموت المناوئة للسنة في البصرة ومدينة الصدر، كما انقلبت القبائل السنية في محافظة الأنبار على تنظيم" القاعدة" الذي كان يقتل الشيعة في "مثلث الموت" وفي الطرق بين محافظتي الأنبار ونينوى. علاوة على ذلك، فإن العراقيين عموماً بدؤوا ينأون بأنفسهم عن الطائفية. فبخلاف ما كان عليه الحال عام 2005، نجد الآن أن معظم الاصطفافات السياسية قد غدت متعددة الطوائف. فالمالكي انفصل في عام 2009 عن الائتلاف الشيعي الذي خاض به انتخابات 2005، وكون ائتلافا جديدا متعدد الطوائف أطلق عليه "ائتلاف دولة القانون". ولا ينطبق هذا على المالكي وحده، بل نجد أن طارق الهاشمي نائب الرئيس العراقي السني الذي كان رئيساً لـ"الحزب الإسلامي العراقي"، قد ترك هذا الحزب والتحق بائتلاف كتلة "العراقية" الليبرالي متعدد الطوائف بقيادة رئيس الوزراء السابق إياد علاوي. هذه الاتجاهات الإيجابية كانت بمثابة إشارات تحذير للمتطرفين والجماعات الطائفية، وداعميهم الإقليميين. فبعض الدول العربية تخشى من نجاح الديمقراطية في العراق، بينما تحبذ إيران وجود عراق ضعيف مقسم على أساس طائفي. ولتقويض صورة المالكي كزعيم نجح في توفير مزيد من الأمن للشعب، ومن أجل خلق جو من الخوف وعدم الثقة، عمل الإرهابيون والمتطرفون على تصعيد العنف من خلال العمليات التفجيرية الكبيرة في بغداد، وأجزاء أخرى من العراق في الأسابيع الأخيرة، كما تزايدت عمليات الاغتيال. ولم يتوقف الأمر هنا، بل حاولت الأحزاب الطائفية التي تخسر أرضا على الدوام إعادة الاستقطاب للمشهد السياسي العراقي مجدداً من خلال العزف على وتر الخوف الذي يدفع العراقيين لاختيار مرشحين من نفس الطائفة التي ينتمون إليها. ولا شك أن منع مئات المرشحين من خوض الانتخابات، ومنهم بعض الساسة السنة البارزين، على خلفية اتهامات بالتعاطف مع حزب "البعث"، قد يكون ضمن الأجندة الرامية لبث الفرقة بين العراقيين. وتأييد المالكي لهذا القرار يقوض التزامه المعلن بممارسة سياسات غير طائفية. وكنتيجة لهذه التطورات، أصبح الموقف أكثر توترا، كما ازداد القلق بشأن احتمالات تزايد العنف قبل وبعد الانتخابات. ومن الأسئلة التي تتردد بقوة في الظرف الراهن: كيف سيتصرف السنة تجاه قرار المنع؟ فإذا ما انضموا لحزب "جبهة الحوار الوطني" في مقاطعة التصويت، أو إذا ما شاركوا بأعداد ضئيلة، فإن العراق سوف يعود مرة أخرى إلى الأوضاع الصعبة التي سادته عقب الانتخابات الأولى بداية عام 2005. هناك سيناريو آخر، وهو أن يشارك السنة في الانتخابات، ويعتبرون هذا المنع بمثابة هجوم على هويتهم، وهو ما سيؤدي إلى تدهور العلاقات السنية -الشيعية، كما حدث في الانتخابات الثانية التي أجريت أواخر عام 2005. ومع ذلك فثمة الآن فرصة جيدة لإحجام العرب السنة عن المقاطعة... وهناك فرصة جيدة كذلك لأن ينظر معظم الناخبين العراقيين، على اختلاف أطيافهم، إلى الأعمال الإرهابية، والتصرفات الطائفية كما هي بالفعل، أي كأعمال تستهدف دفعهم للتصويت أنطلاقا من دافع الخوف، وأن يركزوا بدلا من ذلك على الموضوعات التي سيعتمد عليها مستقبلهم، وهي: الحرية، وتوفير الوظائف والخدمات. وإذا ما تم ذلك، فسيكون العراق قد تقدم خطوة كبيرة نحو تعزيز الديمقراطية. زلماي خليلزاد سفير الولايات المتحدة السابق في العراق، والمستشار الحالي لـ"مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"