من المعلوم أن جوهر فكرة "البعث" في الإسلام، ومبررها والغرض منها، هو "الحساب". فالآخرة هي يوم الدين، يوم الفصل، يوم الحساب. اليوم الذي يطبق فيه مبدأ المسؤولية الفردية على الجميع قال تعالى: "فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًاً يَرَهُ" (الزلزلة 7-8)، وقال: "ألا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى" (النجم 38-41)، وأيضاً: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا (إن تطلب امرأة مثقلة بالذنوب مُعيناً يحملها معها) لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ" (فاطر 18) وهذا في الحقيقة ما كان يهرب منه الملأ من قريش. وقد رُوي أن بعض كبارهم لما سمعوا بذلك أخذوا يبحثون عن وسائل للتخلص من ذنوبهم، إما ببيعها أو بكراء من ينوب عنهم في تحمل عقابها! كانت عقليتهم التجارية تمنعهم عن رؤية شيء آخر لا يقع تحت قانون الربح والخسارة. هم يربحون في الدنيا من حج القبائل إلى الأصنام، ومما يرافق ذلك من التسوق والبيع والشراء، ويمارسون الربا والقمار ويأكلون أموال اليتامى... الخ، وفكرة "البعث" تعني الحساب الفردي على كل سلوك لا أخلاقي يأتيه الفرد في حياته. وبما أن الخطاب كان موجهاً بالخصوص إلى قريش فإنه كان من الطبيعي أن يكون موقفهم منه: حَدِّياً: الرفض الجامد المطلق. ومن هنا تلك الظاهرة اللافتة للنظر: وهي أن قريشاً لم تميز في البعث -كما فعلت شعوب وديانات وحضارات أخرى- بين بعث النفوس وبعث الأجساد. لقد عملت ديانات وفلسفات منذ القدم على الإجابة عن السؤال الذي تطرحه فكرة "البعث" بالقول -بصور مختلفة- إن جوهر الإنسان هو روحه، وإن البدن ليس سوى حامل أو سجن أو مادة لهذا الجوهر. وبالتالي فالبعث عند من يقولون به -من هذا المنظور- سيكون للنفوس وحدها، أما الأجساد فلم تكن إلا آلات للنفوس. وواضح أن هذا المنظور يجعل اعتراض قريش بقولهم "من يحيي العظام وهي رميم" غير ذي موضوع. لأن جوهر الموضوع ليس إحياء العظام أو عدم إحيائها -والله قادر على ذلك وأكثر- وإنما الموضوع هو حساب الإنسان على الشرور التي يرتكبها في حياته، والهدف ليس "الحساب" ذاته، وإنما الهدف ما وراءه، أعني كون الإنسان يتحمل مسؤولية أفعاله، وأنه هو وحده الذي سينال جزاءه عنها. ولا بد من التذكير هنا بما نبهنا إليه في المقال السابق من أن خطاب الجنة والنار، الذي تكرر كثيراً في القرآن، كان في آن واحد سلاحاً وأخلاقاً. أما كونه سلاحاً فلتخويف المشركين من النار وحملهم على الطمع في الجنة، وأما كونه أخلاقاً فلإشعار المؤمنين بأن الإيمان وحده لا يكفي بل لابد من خصال معينة بيَّنها القرآن وأجملها في التقوى والعمل الصالح. ويكاد لا يذكر الإيمان في القرآن إلا ويذكر معه العمل الصالح. وإذا كانت بعض المذاهب الإسلامية لا تشترط العمل الصالح لصحة الإيمان فإنها تعتبره جزءاً ضرورياً منه. والآيات التي ورد فيها التنويه بالذين "آمنوا وعملوا الصالحات" وبـ"الذين آمنوا واتقوا" (ابتَعَدوا عما يوصف بالعمل غير الصالح، أي الذي يضر النفس والناس)... مثل هذه الآيات تتكرر في القرآن بصورة لافتة، وذلك إلى درجة تحمل على الاعتقاد بأن الإيمان وحده لا يكفي، وأن العمل الصالح شرط في كماله، أو على الأقل في استحقاق ثمراته يوم القيامة. وقد عبر حديث نبوي شريف عن ذلك تعبيراً موجزاً غنياً بالدلالة عندما سأله رجل: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: «قل آمنت بالله ثم استقم ». ومن السهل أن يتبين المرء أهمية الاستقامة الإسلامية إذا هو لاحظ أن سورة الفاتحة، أم الكتاب، تقرر فكرة واحدة وهي: "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ". ولابد من أن نضيف إلى ذلك أن القرآن يؤكد مراراً على أن الله غير محتاج في كمال ذاته لا إلى إيمان المؤمنين ولا إلى إحسان المحسنين وأنه "غني عن العالمين"، وذلك كقوله تعالى: "مَنْ عَمِلَ صالحاً فَلِنَفْسِهِ" (فصلت: 46) وقوله: "إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا" (الإسراء 7)، وقوله "وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" (العنكبوت 6)، وقد شرح الطبري هذه الآية بقوله: إن "من يجاهد عدوَّه من الـمشركين فإنـما يجاهد لنفسه، لأنه يفعل ذلك ابتغاء الثواب من الله علـى جهاده، والهرب من العقاب، فلـيس بـالله إلـى فعله ذلك حاجة"، ويؤكد الرازي أن استعمال الحصر بـ"إنما" في قوله تعالى: "فَإِنَّمَا يجاهد لنفسه" يقتضي أن يكون جهاد المرء لنفسه فحسب ولا ينتفع به غيره. أما الأخبار والأحاديث الواردة في هذا المعنى فكثيرة ومتنوعة، من ذلك ما روي عن عائشة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، أنها قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: "وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ" (الشعراء الآية: 214) قَامَ رَسُولُ اللّهِ عَلَى الصَّفَا فَقَالَ: «يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِالْمُطَّلِبِ يَا بَنِي عَبْدِالْمُطَّلِبِ لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الله شَيْئاً. سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ». بمعنى يمكن أن أعطيكم من مالي إذا طلبتم مني ذلك فأنا أملكه وهو تحت تصرفي، ولكن لا يمكن أن أعطيكم شيئاً لا يعطيه إلا الله وحده لأنه وحده المالك له. ومن هنا يجب أن نتساءل: هل يصح القول، باسم القرآن: "الدنيا من أجل الآخرة"، أو "الدنيا مطية للآخرة" بمعنى حصر وجودها من أجل الدخول إلى الجنة أو المصير إلى النار، كما درج على القول بذلك كثير من الناس، "علماء وعامة"، في جميع العصور التي تلت عصر النبوة والخلفاء الراشدين؟ أم أن الأمر بالعكس من ذلك تماماً، وهو أن الآخرة، أعني الجنة والنار، هما من أجل الدنيا، من أجل "الاستقامة فيها" من أجل أن يسود فيها العدل، والتسامح، والسلام، والتواصي بالصبر وبالمرحمة، والدفع بالتي هي أحسن... لقد جادل الملأ من قريش، كما رأينا، جدالا مريراً، حاداً ومتواصلا، في موضوع إمكان البعث، لأن البعث يعني الجزاء، يعني المسؤولية. وإذن فالإيمان بالبعث والتسليم به، كان يتطلب تغيير سلوكهم بالتخلي عن كل ما هو غير مشروع في حياتهم، الاجتماعية والاقتصادية... الخ. الجنة في القرآن ميدان للثواب على ترك الرذائل وإتيان الفضائل في الدنيا. أما النار فهي، بالعكس، ميدان للعقاب على إتيان الرذائل وترك الفضائل في الدنيا. فلولا عمل الإنسان في الدنيا لما كانت هناك جنة ولا نار، وعلى العموم: لولا الدنيا لما كانت هناك آخرة. وإذن فالآخرة من أجل الدنيا وليس العكس.