تمر اليونان بمصاعب داخلية زادت حدتها في الأسابيع الأخيرة، بعد أن اتسعت دائرة الإضرابات لتشمل أكبر النقابات العمالية في البلاد، ولينضم إليها الأطباء وموظفو الضرائب وروابط الفلاحين التي قام منتسبوها بإغلاق الطرق مطالبين بدعم حكومي في مواجهة الغلاء. يحدث هذا بينما تتعرض الحكومة الاشتراكية المنتخبة مؤخراً، لضغوط من المفوضية الأوروبية تدعوها لتقليص حجم الإنفاق وخفض معدل العجز في الميزانية إلى 2 في المئة بدلا من مستواه الحالي البالغ 12.7في المئة. ونزولا عند مطالبات الشركاء الخارجيين، قدمت أثينا خطة لحل الأزمة، تتضمن تجميد رواتب القطاع العام، ووقف التعيينات، ورفع سن التقاعد، وزيادة الضرائب على المحروقات. لكن "حلولا مؤلمة" كهذه، وقد أخضعتها المفوضية الأوروبية لرقابة غير مسبوقة، يتوقع لها أن تكون زيتاً على نار الاضطرابات اليونانية المندلعة، ومن ثم تثور شكوك حول إمكانية المضي في تنفيذ خطة الإنقاذ التقشفية، بل تثور أيضاً حول مصير الحكومة ذاتها! بيد أنه رغم الاضطرابات والشكوك، فقد انتخبت اليونان رئيساً لها يوم الاثنين الماضي، أو بالأحرى أعادت انتخاب رئيسها كارلوس بابولياس لولاية رئاسية جديدة مدتها خمس سنوات، ليصبح ثاني رئيس يتم تجديد ولايته في اليونان حيث يسمح الدستور بالاستمرار في رئاسة الجمهورية لفترتين فقط. وعقب تأكيد إعادة انتخابه، دعا الرئيس بابولياس الشعب اليوناني للحفاظ على وحدته في ظل الأزمة الاقتصادية، وقال إنه يتحتم "تحريك كافة القوى وتحسين عمل مؤسسات الدولة لتجاوز الأزمة". وقد اقترع البرلمان على التجديد لبابولياس بتأييد غير مسبوق حيث صوت له 266 نائباً من أصل 300 نائب، وكان المرشح الوحيد للتصويت، حيث حصل على تأييد حزب "باسوك" الحاكم، والأحزاب الرئيسية المعارضة، بينما قاطعت أحزاب اليسار عملية الاقتراع لكنها أعربت عن احترامها لبابولياس. وكان بابولياس قد انتخب رئيساً للمرة الأولى في فبراير 2005، بناءً على اقتراح من رئيس الوزراء المحافظ في حينها كوستاس كارامانليس. وخلال ولايته الأولى حاول لعب دور في بعض القضايا الداخلية، لاسيما عقب سلسلة الحرائق التي اجتاحت الريف اليوناني وخلفت خسائر ومطالبات فاقمت الوضع الاقتصادي للبلاد. كما قام بوساطة ناجحة بين الحكومة والمعارضة للاتفاق على مشروع الميزانية في عام 2009، وأعطى رأيه أيضاً في قضايا السياسة الخارجية، وأدى زيارات لعدد من البلدان العربية، بينها دول مجلس التعاون الخليجي وسوريا ومصر ولبنان، حيث شدد على العلاقة الوثيقة بين اليونان والعالم العربي، إذ انتقل في أحاديثه من الإحالة على التاريخ والجغرافيا إلى الحاضر بما يرتبه من تعاون تعززه الاستثمارات العربية في اليونان ودور الشركات اليونانية في رفد الأسواق والاقتصادات العربية. ولد كارلوس بابولياس في مدينة "لوانينا" اليونانية عام 1929، وكان والده أحد الجنرالات في إقليم "إيبيروس" الشمالي، وهناك تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي، ثم التحق بجامعة أثينا ليتخرج منها بشهادة في القانون، وبعدها حصل من جامعة "مينيس" على درجة الماجستير، ومارس مهنة المحاماة في الفترة بين 1963 و1981. وخلال مراهقته شارك في مقاومة الاحتلال الألماني لليونان أبان الحرب العالمية الثانية، أما خلال مرحلة الحكم الدكتاتوري (حكم الجنرالات) الذي خضعت له اليونان بين عامي 1967 و1974، فعاش في ألمانيا حيث أعد رسالته للدكتوراه في القانون من جامعة "كولوني"، وعمل في القسم اليوناني لإذاعة "دوتش فليه"، وانتقد نظام الجنرالات عبر وسائل الإعلام الألمانية والعالمية، وأسس منظمة لمساعدة الطلبة اليونانيين في ألمانيا. وساهم بابولياس في تأسيس حزب "الحركة الاشتراكية اليونانية" (باسوك) الحاكم حالياً. وحدث ذلك عقب سقوط دكتاتورية الجنرالات عام 1974، عندما عاد الزعيم آندريه باباندريو من المنفى، ودعا إلى تحالف يضم سائر قوى اليسار اليوناني، ثم تم الإعلان رسمياً عن قيام "باسوك" في 3 سبتمبر 1974. وعندما جرت انتخابات عامة في ذلك العام حصل الحزب على 15 مقعداً فقط من مقاعد البرلمان البالغ عددها 300 مقعد، ولم يكن بابولياس مرشحاً. لكنه كان على قوائم مرشحي "باسوك" في الانتخابات التالية عام 1977، حيث أصبح "باسوك" حزب المعارضة الرئيسي في اليونان لحصوله على 26 في المئة من الأصوات ولفوز 92 من مرشحيه لعضوية البرلمان، منهم بابولياس نفسه الذي انتخب نائباً عن دائرة "لوانينا"، وهو المقعد الذي حافظ عليه حتى عام 2004. وخلال حياته السياسية، الحزبية والبرلمانية، الحافلة، تقلد بابولياس حقيبة الشؤون الخارجية والتعاون مرتين؛ ففي انتخابات أكتوبر 1981 دخل "باسوك" التاريخ بحصوله على 48 في المئة من الأصوات، ليشكل أول حكومة اشتراكية في اليونان منذ عام 1924. وفي ثاني حكومة يشكلها الاشتراكيون بقيادة باباندريو ، تولى بابولياس وزارة الخارجية بين عامي 1985 و1989، ثم تقلدها مرة أخرى في الحكومة الاشتراكية الثالثة في أكتوبر 1993 واحتفظ بها حتى يناير 1996. وخلال تلك السنوات خاض بابولياس معركته الخارجية الكبرى، متمثلة في ضم قبرص اليونانية إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، وهو هدف تحقق له أخيراً في عام 2004. وكان مشاركاً في العديد من الملفات والقضايا، لاسيما في إطار الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي، وكذلك جهود سلام الشرق الأوسط. إنها خبرة سنوات عمر تقارب الـ82 عاماً، يحاول بابولياس أن يضعها الآن في خدمة حكومة "باسوك"، وهي تواجه أشد أزمة اقتصادية واجتماعية في تاريخ اليونان منذ عقود طويلة. وإن لم يمنح الدستور اليوناني المعدل عام 1974، رئيس الجمهورية أكثر من سلطات فخرية وبروتوكولية، فإن سلطان الخبرة واعتبار السن لا يمكن أن يغيبا تماماً عن مسرح التعاطي في إطار العلاقة بين أطراف النظام السياسي اليوناني حول أزمة باتت سماؤها تظل الجميع، ويبدو كما لو أن الحلول تزيدها بعداً عن المتناول، والمعالجات تفاقم قتامة أنوائها... ولا يظهر أن إعادة انتخاب بابولياس ستغير في مسار تفاعلاتها تغييراً يُرى أو يذكر، لكنها دليل استقرار حميد! محمد ولد المنى