في الأساس لا تكون الوحدة إلا مع الآخر. والآخر لا يكون إلا مختلفاً. وإلا فإنه لا يكون آخر. هذا يعني أن المحافظة على الوحدة تتطلب المحافظة على الآخر. وأن استمرارها هو استمرار له. وهو يعني بدوره أن الوحدة يجب ألا تؤذي، بل يجب ألا تعني أساساً محاولة إلغاء الآخر أو تذويبه، وألا تصبح وحدة مع الذات. فما من وحدة قامت واستمرت وازدهرت إلا وفيها تماهٍ للآخر. وما من وحدة تهاوت وتفتّتت إلا نتيجة امتهان حق الآخر المكوّن لها في أن يكون نفسه، أي أن يكون آخر.
يتحدث فرويد عن نرجسية الاختلاف. ويقول إنه مهما كان الاختلاف محدوداً فإنه يحتل موقع القلب في هوية كل منا. أرسى الإسلام ثلاث قواعد أساسية تقوم عليها الوحدة في التنوع.
القاعدة الأولى هي الوحدة الإنسانية. بمعنى أن الناس جميعاً يشكلون أمة واحدة خلقهم الله من نفس واحدة. ولقد قال القرآن الكريم: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى).
القاعدة الثانية هي التنوع الإنساني حيث تتابع الآية الكريمة (... وجعلناكم شعوباً وقبائل). أي أن هذا التنوع جُعل بإرادة إلهية، وأن وجوده هو تجسيد لهذه الإرادة الإلهية وتعبير عنها.
القاعدة الثالثة هي أن الهدف من هذا التنوع هو التعارف بين الناس تحقيقاً لوحدة تحفظ التنوع وتحترمه وتصونه. حيث تكتمل الآية القرآنية بتحديد الحكمة من التنوع بقولها (لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
فالتعارف هو الجسر الذي يربط بين الجماعات المتنوعة والمختلفة ولكن لا تعارف من دون معرفة. ذلك أن التعارف يقوم أساسا على المعرفة. ويفترض بالآخر أن يكون مختلفاً حتى نتعرف إليه. ويفترض أن نكون نحن مختلفين عنه حتى يتعرّف إلينا. ومن دون هذا الاختلاف ما كانت هناك حاجة للمعرفة، وما كان للتعارف أساسا أن يكون. من هنا فإن الدعوة القرآنية للناس ليتعارفوا هي في حدّ ذاتها دعوة لهم للتعرّف على ما بينهم من اختلافات وللاعتراف بهذه الاختلافات، ولإدراك حتمية استمرارها، ولبناء مجتمع إنساني واحد ومتناغم على قاعدة معرفة المختلفين وتعارفهم.
كثيرة هي الإشارات إلى الاختلاف والتنوع التي وردت في القرآن الكريم، أذكر منها :
(وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا) (سورة يونس، الآية 19).
(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين) (سورة هود، الآية 118).
(ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من وليّ ولا نصير) (سورة الشورى، الآية 8).
لقد شاءت الحكمة الإلهية أن يكون الناس رغم وحدة الخالق، ووحدة الخلق أمما وشعوباً مختلفة. فالوحدة الإنسانية تقوم على الاختلاف والتنوّع وليس على التماثل والتطابق. ذلك أن الاختلاف آية من آيات عظمة الله ومظهر من مظاهر روعة إبداعه في الخلق. يقول القرآن الكريم: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)، (سورة الروم، الآية 22). وبالتالي فإن الاختلاف العرقي لا يشكل قاعدة لأفضلية ولا لدونية. فهو اختلاف في إطار الأسرة الإنسانية الواحدة، يحتم احترام الآخر كما هو وعلى الصورة التي خلقه الله عليها.
إذا كان احترام الآخر كما هو لوناً ولساناً (أي إثنياً وثقافياً ) يشكل قاعدة ثابتة من قواعد السلوك الديني في الإسلام، فإن احترامه كما هو عقيدة وإيمانا هو إقرار بمبدأ تعدد الشرائع السماوية واحترام لمبدأ حرية الاختيار والتزام بقاعدة عدم الإكراه في الدين.
فالقرآن الكريم يقول:(ولكل وجهة هو موليها) (سورة البقرة، الآية 148). وفي إشارة واضحة إلى تعدد التوجهات يقول أيضا:(وما بعضهم بتابع قبلة بعض). (سورة البقرة، الآية 145).
(لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه فلا ينازعنّك في الأمر وأدع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم)، (سورة الحج، الآية 67).
(كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون) (سورة الجاثية، الآية 28).
معنى ذلك، أنه مع اختلاف الألسن والألوان، كان من طبيعة رحمة الله اختلاف الشرائع والمناهج، وهو ما أكد عليه القرآن الكريم بقوله: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا. ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم. فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) (سورة المائدة، الآية 48). فالاختلاف الثقافي والعرفي والديني والمذهبي باق حتى قيام الساعة، والحكم فيه يومئذ لله. والتعامل مع بقائه لا يكون بإلغائه ولا بتجاهله، بل بالتعرّف إليه وتقبّله واحترامه كسنّة دائمة من سنن الكون.
لا يتناقض الاختلاف مع الوحدة الإنسانية، فالعلاقة التكاملية بين الوحدة والاختلاف تبرز من خلال المبادئ الثلاثة التالية التي قال بها القرآن الكريم :
المبدأ الأول هو التداول:(وتلك الأيام نداولها بين الناس)، (سورة آل عمران، الآية 140). إذ لو كان الناس كلهم شعباً واحداً أو إثنية واحدة أو على عقيدة واحدة وفكر واحد، لما كانت هناك حاجة إلى التداول. ولأنهم مختلفون، ولأن الإرادة الإلهية شاءت أن يكونوا مختلف