يمثل إعلان "باركر جريفث" السيناتور الديمقراطي السابق من ولاية ألباما مؤخراً عن التحاقه بصفوف الحزب الجمهوري، آخر الإنذارات الموجهة إلى الحزب الديمقراطي -والذي بقيت أنتمي إليه طوال حياتي- التي تحثه على اتخاذ قرار سياسي حاسم يحدد مصيره ومستقبله. فإما أن يتخذ الحزب سياسات ومواقف أكثر وسطية واعتدالاً، أو أن نخاطر بمواجهة كارثة انتخابية تهدد الحزب ليس في الانتخابات النصفية المقبلة فحسب، إنما لعدد من السنوات المقبلة. ويعد السيناتور جريفيث خامس شخصية تشريعية ديمقراطية معتدلة، إما أعلنت انضمامها للحزب الجمهوري، أو عبرت عن رغبتها في التقاعد السياسي بدلاً من خوض معركة إعادة الانتخاب لمقاعد مجلس النواب أو الشيوخ في العام المقبل. كما تمثل هذه المواقف تراجعاً كبيراً عن التقدم الذي أحرزه الحزب الديمقراطي ابتداءً من عام 2006 وصولاً إلى انتخابات عام 2008، التي تمكن الحزب فيها من استعادة موقعه باعتباره الحزب الأميركي الأكثر شعبية، للمرة الأولى خلال ما يزيد على عقد من الزمان. ويجدر بالذكر أن ذلك الفوز الكبير الذي حققه الحزب مرده إلى أمر واحد رئيسي ألا وهو تمكن الديمقراطيين من التغلغل في ولايات ومقاطعات وقواعد انتخابية عرفت بولائها التقليدي للحزب الجمهوري منذ ستينيات القرن الماضي. والذي حدث في انتخابات عامي 2006 و2008 هو انضمام أعداد أكبر من الناخبين الجمهوريين المعتدلين والمستقلين إلى قواعد الحزب الديمقراطي التقليدية، ما مكن الحزب من الفوز بأغلبية الناخبين وحشد مرشحيه من أعضاء الكونجرس بأعداد كبيرة شكلت الأغلبية في كلا المجلسين، انتهاءً بوصول أوباما إلى البيت الأبيض. وقد جاء انخراط ذلك العدد الكبير من المستقلين والجمهوريين المعتدلين بناءً على رسالة واضحة وجهها لهم الحزب الديمقراطي، مفادها الوعد بتحوله إلى خيمة سياسية كبيرة تتسع للجميع. كما حوت تفاصيل تلك الرسالة السياسية التي وجهها الحزب ما يعني سعة صدره وترحيبه بتعدد الآراء داخل صفوفه حتى في أكثر القضايا إثارة للخلاف والجدل مثل: الإجهاض، وحقوق ملكية السلاح، ودور الحكومة في إدارة الاقتصاد القومي. ولم تقتصر الاستجابة لهذه الرسالة السياسية الترحيبية على الناخبين وحدهم، بل شملت تقدم عدد من المرشحين الموهوبين الأذكياء للترشيح وخوض المعركة الانتخابية والفوز بها تحت رايات الحزب الديمقراطي، في ولايات ومقاطعات طالما عرفت بولائها التاريخي للجمهوريين. وبفضل تأييد المستقلين والمعتدلين الجمهوريين الواسع للحزب الديمقراطي، احتشد الكونجرس بالديمقراطيين وحقق أوباما نفسه فوزاً كبيراً في ولايات جمهورية مثل إنديانا وكارولاينا الشمالية وفرجينيا وكلورادو وغيرها من الولايات الحمراء. بيد أن الديمقراطيين باتوا اليوم في مواجهة مصير سياسي منذر بالخطر. فمن ناحية، لا يكف المدونون الإلكترونيون والخبراء والصحفيون العاملون في مختلف القنوات والشبكات الإخبارية من اليساريين عن توجيه الانتقادات اللاذعة للديمقراطيين، متهمين إياهم بأنهم ليسوا "ديمقراطيين حقيقيين" ولا "ليبراليين حقيقيين" كذلك. وفي الوقت نفسه لا يكف الجمهوريون عن كيل الاتهامات لمؤيدي الحزب الديمقراطي، واصفين إياهم بالانسياق وراء حزب تمادى في تطرفه يساراً، وهو توجه لا تحتمله غالبية القواعد الانتخابية الأميركية. وليس ثمة أدلة على مدى خطر هذا الوضع السياسي أكثر وضوحاً مما هو متوفر أمامنا اليوم. فانظر مثلاً إلى الخسائر الانتخابية الماحقة التي حصدها الحزب في كل من نيوجيرسي وفرجينيا هذا العام. وفي كلتيهما لم يحقق الجمهوريون الفوز إلا بفضل الدعم الذي قدمه لهم الناخبون المستقلون الذين سبق أن صوتوا لأوباما. وبعد مضي عام واحد فحسب، عاد هؤلاء الناخبون ليصوتوا لصالح مرشحي الحزب الجمهوري! ثم علينا أن ننظر إلى الإنذارات التي تطلقها نتائج استطلاعات الرأي العام الأخيرة؛ ومن ذلك انخفاض شعبية أوباما إلى ما دون نسبة 49 في المئة إجمالا، ودون الـ41 في المئة في أوساط المستقلين بصفة خاصة. وتظهر نتائج استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة "جالوب" بشأن توقعات نتائج انتخابات الكونجرس المقبلة، تقدم الجمهوريين على منافسيهم الديمقراطيين. وبالطبع ليس في هذه الإحصاءات والأرقام ما يحمل على تفاؤل الحزب الديمقراطي. يضاف إلى هذه التراجعات والخسائر السياسية، تحول السيناتور جريفيث إلى صفوف الحزب الجمهوري، وكذلك تقاعد عدد من زملائه التشريعيين الآخرين من مناصبهم في الكونجرس، مع العلم أن هؤلاء ربما كانوا الديمقراطيين الأشد صدقاً في ولائهم للحزب والأكثر قدرة على رؤية نذر الكارثة الانتخابية التي تحدق بهم. ورغم هذه الأخبار السيئة، فليس مطلوباً من الحزب أن يهيم على وجهه مكلوماً في الفلوات. إنما يتوقف مصيره على مدى قدرته على الإصغاء لما يقوله الناخبون الأميركيون. فما يحدث له من تراجع الآن ليس تعبيراً عن موجة غرام جديد بالأيديولوجية المحافظة، كما أنه لا يعبر عن عودة واسعة لأحضان الحزب الجمهوري. وإن كانت ثمة وسيلة لإنقاذ الحزب الديمقراطي من محنته المحدقة، فهي تكمن في انتباهه للمدى الذي ينهمك فيه المحافظون الراديكاليون على شد الديمقراطيين وطردهم بعيداً عن مواقع الوسطية والاعتدال. وعليه، فكل الذي يطالب به الحزب الديمقراطي لاسترداد عافيته السياسية، هو اعترافه بحقيقة أن الأجندة التي يعبر عنها الجناح الأكثر ليبرالية في صفوفه لم تحظ بتأييد أو تعاطف غالبية الأميركيين. على صعيد الممارسة العملية، يتطلب هذا الاعتراف، اتجاه الحزب نحو سياسات أكثر وسطية واعتدالاً في كافة القضايا والمجالات: من إصلاح نظام الرعاية الصحية، إلى الاقتصاد، مروراً بقضايا البيئة، ثم وصولاً إلى أفغانستان. وها قد حان الوقت الذي يتعين فيه على الحزب اتخاذ قراره المصيري الحاسم. فبينما لم يعد ممكناً تجنب الخسائر الانتخابية المتوقعة في العام المقبل، لا يزال أمام الحزب ما يكفي من الوقت لتجنب ذلك النوع من الكوارث الانتخابية الهائلة التي ينجم عنها إعادة ترسيم الخريطة السياسية القومية كلها. وينبغي للقادة الديمقراطيين الإسراع نحو توجيه دفة سفينة الحزب تارة أخرى نحو الوسط والاعتدال. بفعلهم هذا، يمهد القادة الديمقراطيون الطريق لبدء رحلة طويلة من القيادة المطلوبة لإحداث نوع من التغيير الحقيقي البراجماتي، الذي طالما تطلع إليه معظم الأميركيين. وليام إم. ديلي وزير التجارة في إدارة كلينتون، ورئيس الحملة الانتخابية لآل جور في عام 2000 ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"