التغير المناخي...خطوات لكسب الثقة
قبل بضعة أيام، وعندما اقترب مؤتمر كوبنهاجن حول المناخ من نهايته وأوشك المؤتمرون على الإعلان عن اختتام أعماله، حتى وجد المتفاوضون أنفسهم عالقين في موجة من النقاشات الحادة، فمن جهة تعهدت الصين بخفض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، ومن جهة أخرى أصرت الولايات المتحدة على إثبات هذا التعهد بوسائل يمكن التحقق منها، وبعدما رفضت الصين الخضوع للمراقبة، ردت أميركا قائلة: "من دون شفافية لا توجد صفقة"، في حين ظلت الصين على موقفها القاضي بأن"التدخل الخارجي يعني لا صفقة"، والنتيجة أن المباحثات بين القوى الدولية الرئيسية كادت أن تتوقف إلى أن اتفق الجانبان في النهاية على الخضوع إلى نوع من المراقبة، وإن جاءت التعهدات الأخيرة متواضعة في حجمها، ولم ترتق إلى مستوى التطلعات التي سادت قبل المؤتمر. والحقيقة أن هناك طرقاً أفضل لحل مسألة الشفافية والجدال، الذي حام حولها دون الوصول إلى الطريق المسدود، الذي وجد المفاوضون في قمة كوبنهاجن أنفسهم أمامه، فالولايات المتحدة والصين، تدافعان عن مصالح مهمة تخصهما، بحيث يحتاج الغرب من ناحيته إلى التأكد من التزام الدول الموقعة على الاتفاق بتعهداتها، فيما تريد الصين حماية نفسها من التدخل الخارجي، الذي قد تشكله آليات المراقبة، وما يستتبع ذلك من إيفاد مراقبين دوليين إلى داخل الصين وما شابه، وفي الوقت الذي تسعى فيه أميركا إلى تطمين نفسها والحصول على ضمانات بالتأكد من التزام باقي الدول تريد الصين الاستقلال والاحترام وعدم التدخل في شؤونها.
لكن رغم كل ما يبدو على الموقفين من تنافر يصعب التقريب بينهما، فإنها ليسا متباعدين بالدرجة التي نتصورها، وفي هذا الإطار أطرح خمسة حلول قادرة على المساعدة في إذابة حاجز الثقة المفقودة بين الطرفين، ولعل أول تلك الحلول تبني نظام للمراقبة بعيد عن التدخل المباشر، وذلك بجعل أي انتهاك للتعهدات التي قطعتها الصين على نفسها واضحة ومكشوفة من الخارج، وهو شبيه بالجار الذي يرفض السماح بدخول بيته لمراقبته من الداخل، لكن يمكن التأكد من خلال المدخنة وما ينبعث منها من دخان، وقد ساعد هذا الأسلوب في توقيع اتفاقيات سابقة مثل معاهدة الحد من تسرب النفط في مياه البحر، إذ بدلًا من مراقبة سلوك السفن، وهي في عرض البحر، وما يرتبط بذلك من صعوبات تم الاتفاق على تزويد السفن بآليات تمنع التسرب، ويمكن التحقق منها وهي رابضة في الموانئ. فكيف يمكن نقل هذه الفكرة إلى كوبنهاجن؟ الحقيقة أننا نستطيع تطبيق النموذج ذاته بالاعتماد على وسائل الرصد المتقدمة تكنولوجياً لقياس مدى التزام كل دولة بالانبعاثات المحددة لثاني أكسيد الكربون وتقيدها بها بدل إرسال فرق للتفتيش تثير حساسية الدولة المعنية. وفيما يتعلق بالحل الثاني، فإنه يمكننا التركيز على النتائج بدل السلوك بحيث يمكن للمجتمع الدولي الاعتماد أقل على التحقق من سلوك الدول والاعتماد أكثر على التأكد من النتائج النهائية، ومدى مطابقتها لمنطوق الاتفاق الموقع، وهو الفرق بين أن نطلب إلى جارنا استبدال موقده الناري لأنه يطلق دخاناً كثيفاً وبين مراقبة المدخنة وما ينبعث منها، والمطالبة بخفض الدخان المنبعث، فتحديد مطالب مرتبطة بالنتيجة يقلل من الشعور بالمراقبة والتدخل ويعطي مجالاً أفسح للحركة ما يحد من مشاعر الغضب. وفي الحل الثالث أقترح فكرة استخدام أسلوب المنع، فمادامت الصين أبدت تحفظاً إزاء السماح للمراقبين بدخول أراضيها للتأكد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، يمكن للمفاوضين ترك الصين لتكون الدولة الوحيدة خارج نظام المراقبة شريطة أن تُحمل بكين كامل المسؤولية إذا لم تنخفض الانبعاثات العالمية من غاز ثاني أكسيد الكربون لأنه سيكون واضحا حينها أن الصين هي المتسببة في هذا الفشل بعدما تم التحقق من التزام باقي الدول بتقليص انبعاث ثاني أكسيد الكربون.
ويتمثل الحل الرابع في الإشراك في المراقبة لكسب الثقة وتبديد الشكوك فبعد نهاية الحرب الباردة رفض المسؤولون السوفييت المتوجسون السماح للمفتشين الأميركيين إدخال جهاز متقدم يكشف عن الأسلحة النووية مخافة أن يحتوي على آلة للتجسس، فما كان من الولايات المتحدة إلا أن اقترحت إدخال جهازين وعرض أحدها لفحص روسي شامل للتأكد من خلوه من أية آلة للتجسس على أن يترك للروس اختيار أحد الجهازين تعزيزاً للثقة، وبالتخلي عن بعض الرغبة في السيطرة استطاع المسؤولون الأميركيون كسب ثقة نظرائهم الروس وسمحوا لهم بالتفتيش، وبالمثل تستطيع الصين اختيار المشاركين في عملية المراقبة واختيار الأسلوب المناسب للقيام بذلك، أو يمكن من جهة أخرى وللمزيد من الثقة توقيع الكونجرس الأميركي على قانون المناخ لتأكيد جدية واشنطن وانخراطها في الحد من الاحتباس الحراري. أما الحل الخامس فيتمثل في جعل التحقق النتيجة وليس المقدمة، إذ بدلًا من التركيز على المراقبة يتعين إبراز فوائد الصفقة للطرفين والتعامل مع الشفافية كنتيجة منطقية تأتي لاحقاً، بحيث يمكن للمفاوضين تغليف إجراءات الرقابة في إطار المصالح والمنافع المشركة حتى لا تظهر بصورة بارزة ويتم استساغتها من قبل الصين. ويمكن تطبيق هذه الاستراتيجية في المباحثات المستقبلية حول المناخ بتبني أسلوب تبادل الترتيبات والاتفاقات بين الدول تكرس خفض ثاني أكسيد الكربون مثل ترتيب جودة الصناعات على أساس ما تطلقه من ثاني أكسيد الكربون وتقليص الرسوم الجمركية على الواردات التي أنتجت بأقل كمية ممكنة من الكربون.
سيث فريمان
أستاذ التفاوض وحل النزاعات بجامعة نيويورك الأميركية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"