لم يفاجأ أي عاقل بالإعلان الدراماتيكي لنتنياهو بخصوص "تعليق" البناء في المستعمرات (المستوطنات) لمدة عشرة أشهر! فهذه المناورة (الخدعة) هي، من حيث الشكل، بالنسبة له ولـ"شعب المستوطنين"، تبدو تنازلا "مؤلما" بينما تشكل، في جوهرها، تكريسا للمشروع الاستعماري "الاستيطاني" المستمر منذ أكثر من ستين عاما، والذي أكده أكثر من قرار للحكومة الإسرائيلية مؤخرا. ورغم محاولات نتنياهو إقناع "شعب المستوطنين" (الذي "انتفض" وبات قريبا من التحول إلى دولة قبل الدولة الفلسطينية) أن التجميد لمدة عشرة أشهر ليس فعليا وأن الفعلي هو استمرار "الاستيطان" حتى خلال هذه الفترة، كما جاء على لسان وزير الدولة "بيبي بيغين" الذي أعلن عن "بدء بناء 3000 وحدة في مستوطنات الضفة ستستوعب 10000 مستوطن". كذلك، تتواصل يوميا جرائم "المستوطنين" المباشرة ضد الأرض والإنسان في فلسطين وترعاها وتحرض على المزيد منها حكومة نتنياهو بكل مستوياتها، وتوفر لها الغطاء والحماية. إذن، القرار ليس تجميدا لـ"الاستيطان" بل هو تضليل وخداع، ناهيك عن استثناء القدس وهو الأمر الأخطر! بل إن كثيرا من القوى، في الوسط واليسار الإسرائيلي وفي الغرب أيضا، تتحدث عن لعبة (خدعة) نتنياهو الجديدة. ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك، إسرائيليا، تصريحات ليفني، التي ترى "أن السياسة الراهنة للحكومة الإسرائيلية غير مجدية. لأسفي نعيش اليوم في جانب لم تقرر فيه بعد قيادة إسرائيل أي وجهة تريد. هذه الحكومة لا تعلم إلى أين تريد الوصول وهي تحاول ترتيب وضعها مع الجميع". أما دوليا، فقد كتب كارتر: "ما دامت إسرائيل مستمرة في التوسع الاستيطاني فإن زعماء منظمة التحرير الفلسطينية سيرفضون الانضمام إلى أي محادثات سلام من جديد. لن تقبل أي دولة عربية أو إسلامية اتفاقا شاملا بين الفلسطينيين والإسرائيليين في ظل احتفاظ إسرائيل بسيطرتها على القدس الشرقية". صحيح أن حالة الإحباط الشديدة تسود أوساط الفلسطينيين لكن عليهم، بدءاً من السلطة مرورا بالفصائل وانتهاءً بمؤسسات المجتمع المدني، أن يقوموا بمزيد من التحرك. فما تقوم به "دولة المستوطنين" الآن هدفه تعطيل قيام الدولة الفلسطينية، والطريق المسدود الذي وصلت إليه المفاوضات يؤكد خيار إسرائيل: دولة فلسطينية خلف جدار الفصل العنصري محشورة في معازل بلا موارد، محدودة الحركة فاقدة للسيادة... مع ضم "التكتلات الاستيطانية لدولة إسرائيل". صحيح أن رفض السلطة الفلسطينية مناورة نتنياهو، أمر جيد، لكن مع عدم وجود شريك للسلام في إسرائيل واستمرار حكومة نتنياهو بممارسة خداع الرأي العام، خاصة بعد إعلانه العودة إلى إصدار مزيد من أوامر البناء الجديدة في "المستوطنات" بعد انتهاء العشرة أشهر، يبقى مطلوبا، فلسطينيا، البحث عن بدائل أخرى. نحن لا نطالب أحدا بإعلان الحرب لكن الاعتماد على الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو على رد فعل إسرائيلي إيجابي، لا يشكل بديلا. فالخدعة استهدفت الالتفاف حول الموقف الفلسطيني الرافض للعودة للمفاوضات قبل التجميد الكامل "للاستيطان" في القدس والضفة معا، وقصدت رمي الكرة في الملعب الفلسطيني وإحراج السلطة وإضعاف موقفها دوليا من خلال ادعاء "التنازل" بينما واقع الأمر يسير بالاتجاه المعاكس. إذن كيف يجب أن تتحرك السلطة ومنظمة التحرير وكل الفصائل النشطة ضد هذه المناورة عدا عن تصريحات الشجب والاستنكار والإدانة؟ لماذا لا نتعلم من أعدائنا؟! فها هم "المستوطنون" في الضفة الغربية يجابهون نتنياهو وحكومته. فـ"منظمات الاستيطان" باتت جيشا يدافع عن "شعب المستوطنين" داخل الكيان الصهيوني، يهاجمون ليلا مزارع الفلسطينيين ويقطعون أشجارها ويحرقونها، ويقومون بإعادة المنشآت التي تفككها شرطة الاحتلال في "المستوطنات العشوائية"، بل ويستحدثون بؤرا "استيطانية" جديدة سواء برضا سلطات الاحتلال أو رغما عنها. بل إنهم لجأوا إلى المحكمة العليا الإسرائيلية مطالبين بهدم بيوت فلسطينية في الضفة بدعوى أنها غير مرخصة مقابل تفكيك منشآت البؤر "الاستيطانية" العشوائية! بل إن حدة التوتر تصاعدت في الأيام القليلة الماضية بين "المستوطنين" والحكومة الإسرائيلية في أعقاب رفض الانصياع للأوامر التي أصدرتها الحكومة بإخلاء البؤر العشوائية والكشف عن مخططات الجيش الإسرائيلي لتنفيذها. ولقد ذكرت صحيفة "هآرتس" أن الاستعدادات في أوساط "المستوطنين" بدأت من أجل مواجهة قوات الجيش في حالة البدء بتنفيذ المرحلة الثانية من خطة تجميد البناء، مثل إجراء تدريبات على إفشال الخطط التي أعدها الجيش الإسرائيلي. وذكرت الصحيفة أن الجيش مستعد لكل الاحتمالات وفي المقابل سيقوم "المستوطنون" بمفاجآت لهذا الأخير رغم أن قادة الجيش يحاولون الوصول إلى قاسم مشترك مع "المستوطنين" لتجنب زيادة حدة التوتر بين الجانبين. بل رجحت الصحيفة أن يقوم قادة "المستوطنين" واليمين المتطرف بعقد اجتماع هدفه إطلاق حملة ضد نتنياهو شخصيا بعد أن كانت ضد وزير "الدفاع" تتضمن سلسلة من الخطوات الاحتجاجية. بات معروفا أن إسرائيل لا ترغب في مبادلة الأرض مقابل السلام، بل الانخراط في مفاوضات لا نهاية لها تستثمر فيها الوقت لتقوية قبضتها على القدس الشرقية والضفة. ويكفي إعلان مصادر سياسية إسرائيلية أن الحكومة ستعلن "المستوطنات" في الضفة كجزء لا يتجزأ من "أراضيها" إن قام الفلسطينيون بـ"خطوات أحادية الجانب"، وبالذات الإعلان عن قيام دولة فلسطينية من جانب واحد تحظى باعتراف دولي. بل إن نتنياهو نفسه أكد على ما ذكرته تلك المصادر. إزاء كل هذا، بات لزاما على الفلسطينيين تجاوز حالة الانقسام (التي تكاد تدمر كل شيء) بإنجاز مصالحتهم الوطنية تمهيدا لجهد جماعي قوامه التحرك عمليا لتعميم تجربة قريتي بلعين ونعلين وغيرهما: مقاومة شعبية جماهيرية تنتشر وتمتد في الأراضي المحتلة وصولا إلى انتفاضة شعبية حضارية عارمة على نسق الانتفاضة الفلسطينية الكبرى (1987 -1993) التي استقت روحها من الانتفاضة- الأطول في التاريخ الإنساني- إضراب عام 1936.