القرار الذي اتخذه رئيس الوزراء البريطاني الخاص بفرض ضريبة بنسبة خمسين في المئة على العلاوات التي يتقاضاها المصرفيون، هز مدينة لندن، ودفع حكومات أوروبية أخرى كي تحذو حذوه. ومن المعروف أن الحجة التي ظل المصرفيون يقدمونها حتى لحظتنا هذه، لتبرير استمرارهم في صرف العلاوات لأنفسهم، على الرغم من استمرار الأزمة المالية الطاحنة التي كانوا هم السبب فيها، هي أنه من دون تلك العلاوات، فإن الكفاءات والمواهب سوف تهاجر من القطاع المصرفي وتتجه إلى المصارف الأجنبية المنافسة. والسؤال الذي يرد على الذهن هنا هو: إلى أين تهاجر هذه الكفاءات الآن بعد أن أصبح وول ستريت مكتظاً بها؟ لا يزال هناك مجال لمزيد من الاستخدام للمنطق والحس السليم للخروج من هذه الأزمة، التي لا تزال أرثوذكسيات العهد البائد، ونظرياته التقليدية، تتضارب بشأنها وتناقض إحداها الأخرى. فالعلاج المقدس الذي اعتاد صندوق النقد الدولي تقديمه للدول، التي تواجه في الوقت الراهن مصاعب اقتصادية بدءاً من لندن إلى مدريد ومنها إلى أثينا، هو تطبيق سياسات اقتصادية ومالية تقوم على التقشف، وخفض الميزانيات، وتقليص الإنفاق الاجتماعي. ومن السياسات التي لا تقل أرثوذكسية عن ذلك، أن تقوم الحكومات الوطنية بكل ما هو لازم لدفع الشعوب إلى الإنفاق، من أجل تشجيع الطلب على السلع الصناعية، ودفع الاستهلاك الفردي إلى أقصى حد ممكن. والمعضلة هنا هي أن المستهلكين كي ينفقوا، فإنهم يحتاجون إلى نفس الأموال التي تأخذها السياسات التقشفية منهم، أو تحرمهم من كسبها. والاقتصاديون، والمسؤولون الحكوميون، على علم بهذه المعضلة، ولكنهم غير قادرين على العثور على طريقة تقليدية للخروج منها، باستثناء، ربما، تعميق العجز في الموازنات، وهي سياسة ليس في مقدور جميع الدول تطبيقها. من الأمثلة على ذلك أن البنك المركزي الأوروبي قد أعطى اليونان توا مهلة عام كامل للسيطرة على عجز ميزانيتها، وهو الشيء الذي ربما لا يكون ممكنا. والطريقة غير التقليدية التي لجأ إليها اليونانيون، والإيطاليون، والفرنسيون (خلال فترة ما قبل الجمهورية الخامسة) - ومعهم آخرون - هي تخفيض قيمة العملة الوطنية. وفي مثل هذه الحالة تدفع الدول ثمناً في التضخم وتفقد سمعة جراء ذلك، وفي النهاية يستنفذ ذلك التضخم الغرض منه، تاركاً الدول أقل جاذبية بالنسبة للمستثمرين. وعلى الرغم من أن واشنطن هي موطن الأرثوذكسية المالية من الناحية النظرية، فإن معطيات الواقع العملي تقول إنها قد ظلت تستخدم لعبة عجز الميزانية لفترة طويلة من الوقت، وهو ما يعتبره عالم الاقتصاد المشهور الحاصل على جائزة نوبل "جوزيف ستيجليتز" نوعاً من "المساعدة الأجنبية المعكوسة"، وغير المألوفة في آن والتي تقوم الدول الفقيرة بموجبها بإقراض الولايات المتحدة تريليونات الدولارات، بفائدة صفر في المئة، من خلال شرائها لسندات الخزانة الأميركية. ولا شك أن ثقة الدول التي قامت بذلك في صحة خيارها، قد تعرضت للمزيد من الإضعاف، عندما أقدم الرئيس أوباما على ضخ تريليون دولار في رهان - سيثبت في النهاية أنه غير مؤمّن - من أجل توسيع نطاق حرب بلاده العقيمة ضد "طالبان"، في الوقت الذي تترنح فيه باكستان بالفعل تحت وطأة الأضرار الجانبية لتلك الحرب. ويرى ستيجليتز في العدد الحالي من مجلة "ناشيونال إنترست"، التي تصدر في واشنطن، أن الدولار يجد صعوبة في الاستمرار في لعب دور عملة الاحتياطي العالمي، ويرى أن الدول البصيرة يجب أن تبدأ منذ الآن، في التفكير في عملة احتياطي عالمي جديدة. وهذه ليست بالمشكلة التي يصعب حلها، خصوصاً أننا نحن الذين أوجدناها. وستيجليتز يدعو لإصدار جديد بواسطة البنك الدولي، لما يطلق عليه"حقوق السحب الخاصة" أو الـ"بانكور" التي أطلق عليها الاقتصادي العظيم"جون ماينارد كينيز"، الذي كان أول من فكر فيها، "الخلق الجديد لنقود خيالية". وبموجب اقتراح "ستيجليتز" فإن الدول الكبرى في العالم، المتجمعة في قيادة صندوق النقد الدولي في واشنطن، ستقوم انطلاقاً من وضعها كدول سيدة بالتلويح بعصا تعلن بعدها أن عملة احتياطي جديدة قد حلت محل القديمة. ويقول ستيجليتز إن الأمر سيبدو حينها، كما لو أن تلك الدول تقوم من خلال تلك الحركة بإعلان أن صندوق النقد الدولي قد اكتشف منجم ذهب ضخما، تحت أساس المبنى الذي يوجد فيه مقره، وأن قيمة الذهب المستخرجة من ذلك المنجم تقدر بـ 600 مليار دولار سنويا. وبناء على معادلة خاصة تعتمد على دخل الدول الأعضاء فيه، سيرسل صندوق النقد الدولي رسائل إلى تلك الدول يخبرها بموجبها عن قيمة الذهب الذي تستحقه من بين تلك الكميات الهائلة المكتشفة تحت أساسه، وأنها يجب بالتالي أن تبدأ في زيادة الكميات الموردة من عملتها، التي ستكون مسنودة بتلك الكميات من الذهب، على أن تكون على ثقة تامة بأن النقود الجديدة سيتم قبولها" فكل ما يهم في تلك المعادلة هو الثقة، التي سوف يؤدي توافرها إلى زيادة السيولة، ومضاعفة الطلب، واستئناف المصانع لعملها مجدداً. ليس هناك سحر في المسألة، وإنما هي تمثل نموذجاً لما يتعين عمله للتغلب على مشكلات الانتقال من النظام القائم على استخدام الدولار كعملة للاحتياطي العالمي، إلى نظام جديد يقوم على استخدام عملة احتياطي عالمية جديدة. مع ذلك، فإنه وكما استنجدت مفوضية الخبراء التابعة لرئيس الجمعية العامة والمختصة ببحث الإصلاحات اللازمة للنظام المالي والنقدي العالمي (الذي ترأس ستيجليتز نفسه جلساتها)، فإن هذا الإصلاح هو"أهم إصلاح في المدى المتوسط يمكن تنفيذه، إذا ما كنا نريد حقاً تعافياً اقتصادياً قوياً ومستقرا". ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفس"