غطت أزمات وقضايا دولية وإقليمية عدة على انتخابات الرئاسة في أبخازيا، والتي أُعلنت نتائجها يوم الثلاثاء الماضي، فكانت مناسبة للتأمل في دلالاتها على درجة التطور الديمقراطي في الإقليم السوفييتي السابق، وعلى وموقعه وسط الصراع الجيوستراتيجي بين روسيا والغرب. ففي الاقتراع الرئاسي الذي شهدته أبخازيا يوم الثاني عشر من ديسمبر الجاري، وتنافس فيه ستة مرشحين على أصوات 130 ألف ناخب مسجل، حصل المرشح سيرغي باغابش على ما نسبته 61.16 في المئة من أصوات المقترعين، ليفوز بولاية رئاسية ثانية مدتها أربع سنوات. وباغابش هو أحد القادة السياسيين البارزين في أبخازيا، وقد سبق أن تقلد عدة مناصب تنفيذية وحزبية رفيعة، وحجز لنفسه موقعاً في قطاع الأعمال... قادماً من القاع الذي رحلت الحقبة السوفييتية تاركة ملايين الناس قابعين فيه. ولد سيرغي باغابش في سوخومي، عاصمة أبخازيا، عام 1949. وبعد تخرجه من كلية الزراعة في جامعة "جورجيا ستيت"، أدى الخدمة العسكرية عام 1972، ثم أصبح حارساً بأحد البنوك الحكومية، قبل أن يصبح معلماً لبعض الوقت، ثم موظفاً في مشروع تعاوني لصناعة النبيذ. وفي تلك الأعوام، انضم باغابش للحزب الشيوعي السوفييتي، وفي عام 1980 أصبح عضواً في اللجنة المركزية للحزب على مستوى جورجيا، ثم سكرتيراً أول للجنة أبخازيا الإقليمية، وفي عام 1982 عين سكرتيراً عاماً للحزب على مستوى مقاطعة "أوتشامشيرا". وبعد سقوط الشيوعية تحول باغابش إلى العمل الحر وسرعان ما أصبح رجل أعمال ناجحا في مجالي الاستيراد والمقاولات، كما عمل ممثلا لحكومة أبخازيا في موسكو. لكنه بداية من عام 1997 أصبح رئيساً لحكومة أبخازيا، وهو المنصب الذي بقي فيه عامين ونصف العام، قبل أن يعود لمزاولة الأعمال الحرة، وفي الوقت نفسه كان عضواً في مجلس إدارة شركة "شرنو مورنيرغو" للطاقة المملوكة لحكومة أبخازيا. وحينئذ غدا باغابش أحد قادة المعارضة التي تشكلت في حزب "أبخازيا الموحدة"، والذي تحالف مع "أمستخارا" وهي حركة معارضة أخرى قوية. ثم سرعان ما برز اسم باغابش كمرشح لانتخابات 2004 الرئاسية، وقامت الحركتان بترشيحه فعلا. وحين أجريت الانتخابات في أكتوبر من ذلك العام كان المرشح ورئيس الوزراء راؤول خادجيمبا مدعوماً من قبل روسيا ومن حليفها الرئيس المريض والمنتهية ولايته فلاديسلاف أردزينبا. لكن خادجيمبا خسر الانتخابات لصالح باغابش، ونتيجة لنشوب توترات بين المتنافسين، فقد توصلا إلى شراكة سياسية سمحت بتفادي تأزيم الوضع، حيث أعيدت الانتخابات في يناير 2005 على أساس قائمة موحدة، وأصبح خادجيمبا نائباً للرئيس. وعن السنوات الأربع الماضية من رئاسته، يعتبر باغابش أنه حقق الكثير لتطوير قطاعي الزراعة والسياحة اللذين يمثلان العمود الفقري لاقتصاد البلاد. لكنه يضع على رأس قائمة إنجازاته استرجاع منطقة وادي "كودوري" للسيادة الأبخازية، بعد طرد القوات الجورجية منها صيف العام الماضي، بالتعاون مع القوات الروسية المهاجمة. وتلك إنجازات شدد عليها حزب "أبخازيا الموحدة" وهو يعلن قبل عدة أشهر إعادة ترشيحه لباغابش لنيل ولاية رئاسية ثانية. كما رشح باغابش نائباً له رئيس الوزراء السابق الكسندر انكفاب الذي يعد أحد الموالين له والمؤيدين بحرارة لسياسته. وبينما وعد باغابش بتسريع تنمية الاقتصاد وتحسين مستوى معيشة المواطنين، لا يتوقع منه المراقبون أي تعديل جديد على صعيد السياسة الخارجية، فقد تعهد مراراً بمواصلة تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية مع روسيا. وخلال انتخابات عام 2004 كانت ملصقات فلاديمير بوتين مع خادجيبما في كل مكان في سوخومي، وفي انتخابات 2009 أيضا لم يكد يخلو شارع أو حي في أبخازيا من صور علقت للمناسبة يظهر فيها باغابش وإلى جانبه بوتين وميدفيديف. ودلالة ذلك أن النخبة الأبخازية ترى في روسيا الحامي والضامن لاستقلال الجمهورية، ولتجربتها الديمقراطية أيضاً! فعشية الانتخابات الأخيرة قال باغابش: "إننا في أبخازيا اليوم لا نختار رئيساً فحسب، بل نرسم طريقاً لمستقبل أبخازيا كجمهورية ذات سيادة". فتلك الانتخابات أول استحقاق "ديمقراطي" تشهده أبخازيا منذ اعتراف روسيا الاتحادية بها كجمهورية مستقلة العام الماضي. وقد حدث ذلك في أغسطس عقب تدخل الجيش الروسي حين تعرضت أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا لقصف جورجي قوي، فردت عليه القوات الروسية بـ"حرب الأيام الخمسة"، حيث استطاعت إخراج القوات الجورجية من الإقليمين وتوغلت في أراضي جورجيا وسيطرت على مناطق حيوية فيها. ورغم أن روسيا سحبت قواتها تحت ضغط دولي واسع، فقد أبقت على بعض جنودها في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، واعترفت رسيما بالإقليمين كجمهوريتين مستقلتين، لتوقع معهما اتفاقات تعاون أمنية وعسكرية. وأبخازيا إقليم يبلغ عدد سكانه حوالي 300 ألف نسمة، ومساحته نحو 8600 كم مربع، يقع على الساحل الشرقي للبحر الأسود، وعلى الحدود الجنوبية للاتحاد الروسي، ومحاط بالأراضي الجورجية من ثلاث جهات، وكان تابعاً لجورجيا منذ عام 1931، لكن سكانه اعتبروا تفكك الاتحاد السوفييتي فرصة لإنهاء تبعيتهم لجورجيا، وفي يوم 23 يوليو 1992 أعلنت أبخازيا استقلالها، فدفعت جورجيا بقواتها المسلحة إلى هناك في حرب دامت عاما كاملا، إلى أن أُجبرت القوات الجورجية على الانسحاب أخيراً، وسيطر الثوار على العاصمة سوخومي في مايو 1993. وتجدد التوتر بين أبخازيا وجورجيا حين كان باغابش رئيساً للوزراء بين عامي 1997 و1999، عندما قامت الحكومة الأبخازية في المنفى، الموالية لجورجيا، والتي تتخذ من تبليسي مقراً لها، بحشد قوات على امتداد الحدود الجورجية الأبخازية. ورغم أن الهزيمة العسكرية القاسية التي تكبدتها جورجيا في حرب العام الماضي، جعلت الأبخازيين ينظرون باطمئنان إلى "استقلال" جمهوريتهم، فإن ذلك الاستقلال المعلن من جانب واحد، لم ينل الاعتراف الدولي حتى الآن. فإضافة لروسيا، لا تعترف بأبخازيا سوى نيكاراغوا وفنزويلا فقط. لذلك كانت الانتخابات الأخيرة مناسبة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كي يؤكدا على مواقفهما القائلة بأن استقلال الأمر الواقع في أبخازيا لا يجعلها أكثر من إقليم انفصالي. أما تبليسي فقالت عن الانتخابات إنها "مهزلة"... وفي ذلك ما يدعو باغابش، الشيوعي السابق الموالي لموسكو والمدعوم من شيوعيي أبخازيا، إلى تجسيد شعاراته حول "الاستقلال"؛ ليس عن جورجيا فقط، وإنما عن روسيا أيضا! محمد ولد المنى