إذا كنا أكدنا أكثر من مرة صعوبة صياغة تعميمات على الوضع الديمقراطي العربي نظراً لخصوصية كل نظام سياسي عربي والتاريخ الاجتماعي الفريد لكل بلد، إلا أنه مع ذلك يمكن صياغة حكم عام مفاده أن ما نشهده في العالم العربي في السنوات الأخيرة إن كان يعبر عن حراك سياسي ملحوظ، إلا أنه لا يعتبر تحولاً ديمقراطياً حقيقياً. والواقع أن التحول الديمقراطي -في معناه الحقيقي- يعني الانتقال من نظام سياسي سلطوي إلى نظام سياسي ديمقراطي. ومعنى ذلك -إذا درسنا بعمق الحالات المتعددة للنظم السياسية العربية- أن التحول الديمقراطي لم يتم في أي بلد عربي حتى الآن! على أي أساس أقمنا هذا الحكم العام؟ لقد أسسناه بناء على الدراسات التفصيلية للنظم السياسية العشرة التي تعمق في تحليلها تقرير مؤسسة كارنيجي الأميركية (ما يتعدى الواجهة: الإصلاح السياسي في العالم العربي) وهو من تحرير مارينا أوتادي وخوليا شقير (الترجمة العربية، بيروت، 2008). والبلاد العشرة التي درست -كما ذكرنا من قبل- هي مصر والأردن وسوريا وفلسطين ولبنان والجزائر والمغرب والسعودية والكويت واليمن. وإذا كنا عنينا في المقال الماضي بدراسة تأثير الطائفية في لبنان والقبلية في اليمن على التحول الديمقراطي، فلم يكن ذلك سوى مجرد مثال لتأثير الخصوصية السياسية في بلدين عربيين، على عملية التغيير السياسي العربي. ونستطيع في هذا الحكم العام عن التحول الديمقراطي العربي أن نعتمد على الفصل الختامي الذي حررته خوليا شقير في كتاب مؤسسة كارنيجي، فقد استطاعت فيه ببراعة ملحوظة استخلاص عدد من النتائج الرئيسية التي تستحق التأمل. ولعل أهم نتيجة هي أن معظم الدول العربية شهدت في السنوات العشرين الماضية اختيارات إصلاح سياسي وظفتها لكسب الشرعية في الداخل وعلى الصعيد العالمي، إلا أنه لم تتجاسر أي دولة عربية لتغيير طبيعة النظام السياسي فيها تغييراً حقيقياً، ينقلها من إسار السلطوية الخانقة التي تهيمن بالكامل على مقاليد المجتمع إلى آفاق الليبرالية الرحبة التي تمارس فيها بحق التعددية السياسية وتداول السلطة، ويلعب المجتمع المدني دوره المحوري في التعبير مع الأحزاب السياسية عن مجمل مطالب المجتمع. ويشهد على ذلك -كما يقرر تقرير كارنيجي- أن الحالات العشر التي تمت دراستها وإن كشفت عن التنوع الكبير فيها إلا أنها جميعاً ما زالت إلى درجة كبيرة نظماً سلطوية. وعلى سبيل المثال نجد مناخاً آخر في لبنان وفلسطين، حيث يتمتع المواطنون بحرية أكبر في مجال التعبير وتشكيل الأحزاب، إلا أن ضعف المؤسسات وجسامة المشكلات لا تتيح للديمقراطية أن يتعمق مجراها. ومن ناحية أخرى لاشك أنه في الدول شبه السلطوية، اتسعت ساحة المشاركة الشعبية بشكل ملحوظ في العقدين الماضيين، إلا أن هذه التغيرات لم تؤد إلى تحول ديمقراطي حقيقي. ويبقى السؤال الرئيسي: لماذا لم يتحول الحراك السياسي إلى تحول ديمقراطي حقيقي؟ في ضوء تقرير مؤسسة "كارنيجي" يمكن حصر الأسباب في عدد من الظواهر التي قيدت من انطلاق عملية التحول الديمقراطي. ولعل أول هذه الأسباب هو أن عملية الإصلاح السياسي التي تقوم بها النخب السياسية الحاكمة من أعلى كانت محدودة، وهي إن حاولت مواجهة مخاطر التذمر السياسي والسخط الاجتماعي، إلا أنها -خوفاً من المخاطر- لم تتجه إلى تطبيق أي إجراءات من شأنها أن تغير من طبيعة احتكارها للسلطة السياسية، والممانعة في مشاركة سياسية حقيقية في مجال صنع القرار. ولذلك بدلاً من أن تحقق هذه الدول وعود الحداثة السياسية التي تنص على حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم والتعددية السياسية والانتخابات الدورية النزيهة على كافة المستويات، وأهم من ذلك تداول السلطة، قنعت بمحاولات متعددة في مجال تحديث المجتمع في المجالات الاقتصادية والاجتماعية بدرجات متفاوتة من النجاح النسبي والإخفاق الكامل، نظراً لغياب رؤى استراتيجية متكاملة تقود عملية التغيير الاجتماعي. وفي بعض البلاد العربية التي لم تقنع بأن يكون الحاكم هو رائد الإصلاح السياسي كما هو الحال في المغرب التي قدم فيها الملك نموذجاً، فإن بلداً مثل مصر حاول فيه الحزب الحاكم -وهو الحزب الوطني الديمقراطي- تحقيق هدفين رئيسيين هما تشكيل حكومة أكثر كفاءة وإجراء إصلاح اقتصادي ومواجهة البيروقراطية، ومكافحة الفساد، وإقامة شراكة وثيقة بين القطاعين العام والخاص، بل إعطاء الأولوية في مسؤولية التنمية للقطاع الخاص. ومع ذلك يمكن القول إن هذه التغييرات المهمة والتعديلات الدستورية التي حدثت فيها، لم تؤد حتى الآن إلى تحول ديمقراطي حقيقي. غير أن سبباً آخر من أسباب التعثر الديمقراطي العربي هو ضعف وتشتت المعارضة السياسية، مما جعلها عاجزة عن الالتحام بالقواعد الشعبية وتعبئتها لتكوين رأي عام قوى يدعو إلى التحول الديمقراطي الحقيقي. والحقيقة أن الأحزاب السياسية العربية تمارس دورها في إطار هامش بالغ الضيق، نظراً لتعدد القيود التي تفرضها الحكومات العربية على حركتها. غير أنه بعيداً عن القيود المفروضة على أحزاب المعارضة فإن فشلها الأكبر يبدو في العجز عن التجدد المعرفي فيما يتعلق بالتحولات الأساسية للمجتمع العالمي وانعكاساتها على الأوضاع المحلية في كل بلد عربي، بالإضافة إلى عدم القدرة على صياغة رؤية استراتيجية بديلة للرؤى الرسمية السائدة من شأنها تغيير اتجاهات الرأي العام وتبصيره بأن هناك سياسات بديلة يمكن أن تكون أكثر فعالية في سد الاحتياجات الأساسية للجماهير العريضة وتحقيق التحديث الفعلي للمجتمعات من السياسات الحكومية القاصرة أو الفاشلة. وهكذا يمكن القول إن هناك فعلاً حراكاً سياسياً ملحوظاً في العالم العربي، ولكن لا يتوقع منه في الأجل المتوسط أن يصبح تحولاً ديمقراطياً حقيقياً! ما صعب عملية تصفية احتكار السلطة والمشاركة الجماهيرية فيها!