الفلسطينيون ومستقبل الهوية
وسط المبادرات الأميركية غير الفعالة لدفع عملية "التسوية" في الصراع العربي- الإسرائيلي، والنشاط الصهيوني المحموم لاستكمال مخطط تهويد القدس، والانقسام الفلسطيني المؤسف في مواجهة ما سبق، والتخاذل العربي في هذا الصدد، شاهدت تقريراً مصوراً في إحدى الفضائيات العربية عن توطين مجموعة من الأسر الفلسطينية يقدر عدد أفرادها بالعشرات في مدينة بريطانية بعد معاناة طويلة لهذه الأسر في معسكر للاجئين على الحدود العراقية- السورية بعد أن بدأ العراق يلفظ أبناء فلسطين في أعقاب الاحتلال الأميركي وتغير التركيبة السياسية العراقية اعتباراً من عام 2003.
تابعت بالاهتمام كله مشاهد المساكن التي خصصت لهذه الأسر، وهي مساكن حديثة نظيفة مجهزة بالاحتياجات الأساسية، ومشهداً لربة منزل واحدة من تلك الأسر وهي تعد طعاماً لأطفالها يتناولونه بشهية وهم في حالة انبهار وسعادة بمحيطهم الجديد، ويزداد انبهارهم وتتعاظم سعادتهم وهم يرتادون مكاناً جميلاً لألعاب الأطفال، ويشاركون فيها بحماس الطفولة المحبب، ويلخص رب الأسرة المأساة كلها بقوله إن الغربة صعبة، ولكن مستقبل أطفاله أهم، وإن كانت قسمات وجهه تشير إلى أنه سعيد للغاية بوضعه الجديد.
تذكرت بعد مشاهدة هذا التقرير المصور الذي يشي بالكثير أنني كنت قد رأيت منذ شهور تقريراً مماثلاً في الفضائية ذاتها عن حالة مشابهة وإن تكن في إحدى المدن التشيلية، وما زال عالقاً بذاكرتي حتى الآن الاستقبال الحار الذي حظي به الوافدون الفلسطينيون الجدد إلى تلك المدينة، والحديث عن حجز أماكن لأطفالهم في المدارس، وعن برامج "التكيُّف" التي تعد لهم لكي يندمجوا في حياتهم الجديدة، وانتابتني بعد ذلك هواجس شتى.
قد يكون ما سبق قطرة في بحر، فما الذي يساويه توطين مئات من اللاجئين الفلسطينيين في قارات العالم المختلفة مقارناً بملايين اللاجئين الذين ينتظرون حتى الآن حلولاً دون جدوى، ولكن الخطر يكمن في "المخطط" و"الرمز". وبعبارة أخرى، هل يمكن النظر إلى الحالتين السابقتين باعتبارهما حالتين منعزلتين أم أن ثمة "مخططاً" ينفذ بذكاء كبير وبجرعات صغيرة كي يمر بسهولة منطلقاً من فهم سليم للمعضلة الفلسطينية يتمثل في أنها لن تحل إلا بإنهاء مشكلة اللاجئين، الأمر الذي لا يمكن أن يتم إلا على حساب إسرائيل أو بالتوطين، وفي هذا السياق وحده يمكن وضع الحالتين السابقتين، مع ملاحظة البراعة الفائقة في التنفيذ الذي لا يتم إلا بعد أن يبدو أن مشكلة هذه المجموعات من اللاجئين قد بلغت من التفاقم مبلغاً يجعل التوطين ضرورياً من أجل حماية حقوقهم الأساسية وأولها الحق في الحياة. ومن ناحية أخرى فإن "جرعات الدواء" الصغيرة التي تقدم لعشرات من الفلسطينيين في كل حالة لا تلفت النظر إلى وجود مخطط من أي نوع. وعلى أية حال فمن الضروري لنا أن نعرف الجهات التي تمول عمليات التوطين هذه التي تتكلف بالضرورة مبالغ طائلة كي يمكن التأكد من وجود "مخطط" من عدمه، ومن القوى التي تقف خلف هذا المخطط إن وُجد.
أما "الرمز" فهو لا يقل خطورة، فقد خذل القادة الفلسطينيون شعبهم بانقسامهم، وهم على أية حال لم يتمكنوا من استعادة أبسط حقوقه قبل هذا الانقسام، وتخلى العرب بطريقة بارعة عن الدعم الفعلي لقضيتهم بعد أن استبدلوا "الكلمة" بـ"الفعل"، بل لقد أصبحت "الكلمة" غامضة وملتبسة ومرتعشة! وفي سياق هذا كله تمتد يد "دولية" لـ"إنقاذ" ما يمكن إنقاذه مما بقي من حقوق الفلسطينيين. أتُرانا نستطيع بعد هذا كله أن نلومهم إن هم أمنوا لهذه اليد واستجابوا لها، أو إن تأثرت هويتهم ولو بعد عشرات السنين؟
صحيح أن الفلسطينيين داخل الخط الأخضر لم تتأثر هوياتهم عبر العقود، وصحيح أيضاً أن إخوانهم في الشتات ما زالوا يغرسون مشاعر الهوية ورموزها في الأجيال المتتابعة من الفلسطينيين الذين يولدون خارج الوطن، ولكن لا ينبغي أن نركن على نحو مطلق للخبرة الماضية ذلك أن ما استجد على القضية الفلسطينية في الآونة الأخيرة ليس بالقليل.
ولذلك كله فإن الخطر حقيقي في تقديري من أن تصل هذه التطورات بالمواطن الفلسطيني إلى مرحلة قد يتبنى فيها من المواقف ما يتعارض مع تمسكه بهويته من الناحية العملية وإن بقيت في وجدانه نظرياً. وقد أجابني أحد طلابي من الفلسطينيين من قطاع غزة يوماً عن سؤال وجهته له بخصوص اتجاهات الرأي العام الفلسطيني بعد المستجدات السابقة قائلاً: لا تصدق أن المواطن الفلسطيني العادي مستعد الآن للحديث عن مستقبل القدس أو تفكيك المستوطنات أو بناء الدولة. ذلك أن همه كله هو أن يعثر على أسطوانة غاز يطهو عليها طعام أطفاله. وشاهدت منذ أيام في إحدى الفضائيات العربية تقريراً عن غزة تحت الحصار يتحدث فيه مواطن فلسطيني بأسًى عن الحاجة إلى شربة ماء نظيف مناشداً "الإخوة" في كل من "فتح" و"حماس" أن ينتبهوا لهذه الاحتياجات الأساسية لأبناء شعبهم الفلسطيني، وأن يعبروا خلافاتهم من أجل هذه الغاية.
في هذه الظروف يكمن الخطر من الترويج للحلول "الوظيفية" للقضية الفلسطينية إذا جاز التعبير على حساب الحلول "السياسية"، فما دام الأمر قد وصل بالفلسطيني إلى حد السعي من أجل "أسطوانة الغاز" أو "شربة الماء" فلنوفرهما له على أعلى مستوى مع غيرهما من حقوق الإنسان الأساسية عدا الحق في الوطن، فالوطن تحتله إسرائيل، والقوى الدولية من العجز بحيث لا تستطيع أن تنهي هذا الاحتلال، ناهيك عن الدول العربية التي قررت منذ عقود أن تترك القضية لأبنائها. وأعلم بطبيعة الحال أن هناك نخبة فلسطينية تتمسك بالثوابت، بل وإن الفلسطيني العادي يتمسك بها أيضاً، لكن المعضلة أن الظروف الحالية قد تضطره إلى أن يلقي بنفسه إلى التهلكة، بعد أن أقدم أشقاء له في السابق على سلوك مماثل عندما قبلوا "التوطين الاختياري"، إذا جاز التعبير، عبر سياسات المنح وعروض الوظائف وتسهيلات المعيشة في بعض بلدان الشمال المتقدم. فهل آن الأوان للنظر بجدية أكثر وموضوعية أكثر صرامة في هذا الخطر "الناعم" الذي يتسلل بيننا، دون أن ندري؟