وانطلقت الإذاعة المصرية بكل موجاتها بالأغاني الوطنية في الستينيات التي كانت تمجد مصر، زعيمة الأمة العربية، إلى أغانٍ تمجد مصر وحدها كما حدث بعد حرب أكتوبر 1973. وتحولت الشعارات من معارك الستينيات في الداخل والخارج إلى معارك الأندية والفرق الرياضية "الكورة بتتكلم عربي"، بدلاً من الأرض، و"ما أخذ بالكرة لا يسترد إلا بالكرة". وساهم الإعلام الفارغ في ذلك الشحن بنصيب وافر. فبدلاً من الخواء الإعلامي وجد في الكرة ضالته كي يدير فيها معركته الموهومة. وبدلاً من هبوط نسبة توزيعه وجد في الكرة ما يرفع به نسبته، وفي صور اللاعبين أبطالاً قوميين وزعماء مصر التاريخيين الذين بنوها، وقبل أن ينهار البناء عدة مرات في مرحلتي محمد علي وعبدالناصر. وتحزبت الجماهير التي عانت الأحزاب السياسية، حكومة ومعارضة، من سلبيتها وإدارة ظهرها للسياسة. وأصبحت لها فجأة قضية قادرة على جمعها بالآلاف. ثمانون ألف متفرج، دفعة واحدة. ملأت مباراة الكرة الأخيرة بين مصر والجزائر الفراغ السياسي وفجرت الطاقة الشعبية المكبوتة بدلاً من أن تنفجر في تهويد القدس، واستمرار الاستيطان، والعدوان على غزة، وقتل الأطفال والنساء والشيوخ، واستمرار احتلال الجولان، وجنوب لبنان والضفة الغربية، والتهديد بإعادة احتلال سيناء، وقتل الجنود المصريين على الحدود، وتدمير الأنفاق... والقائمة طويلة. كان المطلوب إعطاء الجماهير النصر المنشود حتى ولو كان وهْماً بعد أن غاب النصر الفعلي، وإدخالها في معركة طال غيابها، وخلق عدو لها حتى ولو كان وهماً، بدلاً من العدو الحقيقي، إسرائيل. توقفت الحياة في القاهرة مساء المباراة، وخلت شوارعها من البشر والعربات، وهي المشهود لها بالزحام الخانق. وسدت الشرطة الطرقات المؤدية للملعب الرياضي. وجلس الناس في بيوتهم أمام أجهزة التلفاز، أو خرجوا إلى المقاهي لرؤيتها على الشاشات المكبرة. وقلما اجتمع الناس على هدف واحد، أناس يعرفون بالشجار على أتفه الأسباب وبالفرقة في القضايا الوطنية التي تحتاج إلى جبهة متحدة أو ائتلاف وطني. وامتلأت المقاهي، وفرشت الحصر في الطرقات الرئيسية والجانبية المؤدية إليها. وتجمع من لا يملك الشاشات الصغيرة حول أجهزة المذياع كما كانوا يفعلون لسماع خطب عبد الناصر في الخمسينيات والستينيات، من المحيط إلى الخليج، وكما يفعلون حتى الآن في الخميس الأول من كل شهر لسماع أغاني أم كلثوم. وكلما اقتربت هجمة أو تحقق هدف علا الصراخ. فإذا ما انتهت المباراة لصالح الفريق المصري خرج الناس إلى الشوارع فرحاً بالنصر. ودقت الطبول، وحمل الهتافون على الأكتاف، ورفعت الأعلام الملونة المصرية الصغيرة والكبيرة كما كانت ترفع الأعلام الممتلئة الألوان إبان الثورة الفرنسية. ويعلو نفير العربات. وينقلب الهدوء إلى صخب، وخلاء الشوارع إلى ملاء. وانقلب الفريق الجزائري إلى شعب الجزائر، شعب المليون شهيد الذي وقفت مصر الثورة معه وأمدته بالسلاح وكان جزاؤها العدوان الثلاثي عليها عام 1956. وردت الجزائر الجميل بذهاب رئيسها بومدين إلى موسكو بعد هزيمة يونيو 1967 ليشتري لها السلاح ويعاتب السوفييت. وبدأت معايرتها بالتعريب بعد أن كاد الاستعمار الفرنسي يقضي على اللغة العربية فيها لصالح الفرنسية وكما فعلت في المناطق والبلاد التي استعمرتها في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. واستدعت مباراة الكرة التاريخ كله، وحولته من تاريخ مضيء إلى تاريخ حالك. وضد مَن؟ ضد الجزائر التي هي جزء من المغرب العربي، الامتداد الطبيعي لمصر غرباً، والذي كان طريق الحجيج إليها، وطريق فتح الأندلس منها. ومنذ حادثة المطار تحولت المنافسة الرياضية بين الفريقين إلى عداء مستحكم بين الشعوب. واستدعي السفيران إلى وزارتي الخارجية للاحتجاج. وود الجمهور الرياضي أن يحضر الرئيسان للتشجيع وليس فقط نجل أحد الرئيسين. وبدلاً من أن تكون الرياضة تهذيباً للمشاعر وتربية للنفوس أصبحت شحذاً للهمم وشحناً سلبياً وخرجت الشعوب وكأنها في ميدان القتال. وبدلاً من أن تكون الكرة وسيلة للتعرف إلى قدرات الآخرين أصبحت أداة للعدوان عليهم. وبدلاً من أن تنال السمعة الدولية الجديرة بشعوبها أصبحت محط استهجان. ولم تنفع محاولات بعض الفنانين للإعلان عن التآخي بين الشعوب بفنهم. وزاد الإعلام في الترويج للروايات بين كلا الشعبين، وصدرت بيانات المثقفين والعلماء والأساتذة تمنع التعاون العلمي والثقافي والفني بين البلدين. جعلنا الأصدقاء أعداء والأعداء أصدقاء باسم الكرة، وجزّأنا ما تبقى لنا من وحدة وكأننا لم نكتف بالحروب الأهلية في الكثير من بلداننا العربية والإسلامية مثل الصومال والسودان والعراق، وأفغانستان وباكستان، مرة باسم الصراع على السلطة وهو أمر شائع طبقاً للقول المأثور الذي قد يقحمه البعض "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، ومرة أخرى طبقاً للمنافسة بين الفرق الرياضية، فذلك هو جنون الكرة.