في السابع من ديسمبر الجاري التقى الرئيس الأميركي أوباما برئيس الوزراء التركي أردوجان في البيت الأبيض، لمناقشة توتر العلاقات بين بلديهما ودراسة سبل تحسينها والتخفيف من توترها. وحتى شهر مارس من عام 2003، وهو التاريخ الذي شنت فيه واشنطن عدوانها على العراق- ظلت اسطنبول أقرب حلفاء واشنطن وأكثرهم ديمقراطية في العالم الإسلامي كله. ذلك أن تركيا لا تزال تحتفظ بعضويتها في حلف "الناتو"، وكانت القوة العسكرية التي نشرتها ضد الدول الأعضاء في حلف "وارسو" خلال سنوات الحرب الباردة، هي الأكبر بعد القوة التي نشرتها أميركا مباشرة في حينه. وعلى الصعيد الإقليمي كانت تربط بين اسطنبول وتل أبيب علاقات قوية، مقابل توتر علاقاتها مع دمشق. وفي مجال أمن الطاقة كانت للمبادرات الأميركية -التركية الفضل في إنشاء خط أنابيب "باكو -تبليسي -سيهام" الذي ذلل نقل إمدادات النفط اليوم من بحر قزوين إلى مختلف الأسواق الغربية عبر البحر الأبيض المتوسط. وفي تلك المبادرات المشتركة مواجهة مشتركة كذلك من قبل واشنطن واسطنبول لاحتكار موسكو وهيمنتها على تلك الأسواق، بقدر ما فيها من مواجهة لابتزاز موسكو لجاراتها المستقلة عنها بسبب منتجات النفط والغاز الطبيعي. غير أن العلاقات بدأت بالتوتر بين العاصمتين الحليفتين على إثر رفض اسطنبول لواشنطن استخدام الأراضي التركية معبراً لنشر القوات الأميركية في العراق في مارس 2003. كان ذلك هو العامل الرئيسي في توتر العلاقات الثنائية التي ربطت بين العاصمتين. ومما زاد الطين بلة تعاطف اسطنبول مؤخراً مع طهران ورفضها إدانة البرنامج النووي الإيراني، إلى جانب عدم انتقادها للحملة التي شنتها طهران على عناصر المعارضة، إثر الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية التي جرت في شهر يونيو الماضي. إلى ذلك تعتبر تركيا عميلاً رئيسياً لمنتجات إيران من الغاز الطبيعي. والأشد إثارة للمدافعين عن حقوق الإنسان، دعم أردوجان الصريح للرئيس السوداني عمر البشير، والذي تتهمه المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور. كما تعلن تركيا دعمها لقادة حركة "حماس" في قطاع غزة... وبذلك فهي (تركيا) لا تثير غضب تل أبيب فحسب، بل كذلك غضب قيادة السلطة الفلسطينية في الوقت ذاته. ثم إن مشاعر العداء لأميركا هي اليوم أشد مما كانت عليه في الماضي، على الرغم من استمرار دعم واشنطن لطموحات اسطنبول الهادفة إلى نيل عضوية الاتحاد الأوروبي. ومما يثير السخرية أن ألمانيا وفرنسا، وهما دولتان لا غنى عن الحصول على موافقتهما لنيل تركيا عضوية كاملة في الاتحاد الأوروبي، هما الأشد معارضة لهذا الطموح. ورغم استمرار العلاقات الوطيدة التي تربط بين الجيشين الإسرائيلي والتركي، يلاحظ أن الانتقادات الموجهة من اسطنبول إلى السياسات الإسرائيلية، لاسيما معاملة تل أبيب للفلسطينيين، أصبحت أشد حدة وغضباً في نبرتها في ظل حكومة أردوجان الحالية. ويذكر أن أوباما وأردوجان أكدا في نهاية لقائهما الأخير في البيت الأبيض على العناصر الإيجابية التي تربط بين بلديهما. وضمن ذلك قدمت اسطنبول تعهداً بالاستمرار في نشر قواتها في أفغانستان، حيث تتولى حالياً مهمة قيادة قوات الأمن الدولية التي يقودها حلف "الناتو" هناك. وقد حظيت هذه المبادرات بترحيب كبير من قبل إدارة أوباما التي تقوم استراتيجيتها الأفغانية على توسيع الدعم الدولي المقدم لها في أفغانستان. كما تأمل واشنطن في أن تزيد تركيا عدد قواتها هناك، إلى جانب توسيع دورها في تدريب قوات الجيش والشرطة الأفغانية. كما تبدي واشنطن سعادة بالخطوات المهمة التي اتخذتها اسطنبول باتجاه وضع حد لسياسات التمييز ضد مواطنيها الأكراد. وتعني هذه الخطوة أن في وسع تركيا لعب دور بناء ومهم في العراق، فضلاً عن دعمها للجهود الهادفة لتحقيق السلام المستدام في ذلك البلد الذي مزقته الحروب والنزاعات الأهلية الطائفية. كما أشار أوباما إلى الجهود التي تبذلها اسطنبول من أجل إيجاد حل لأزمتها المزمنة مع أرمينيا، لاسيما وأن في وسع هذه الجهود فتح الأبواب والحدود الفاصلة بين الدولتين الجارتين. غير أن أياً من هذه النقاط والعناصر الإيجابية، لن يبدل شيئاً في حقيقة الخلاف الكبير في مواقف وأجندة الدولتين الصديقتين فيما يتصل بإيران. فمن ناحيتها تدرك إدارة أوباما جيداً الآن أنه ليس مرجحاً لاستراتيجية التفاوض والعمل الدبلوماسي أن تحدث تغييراً يذكر في سلوك إيران النووي. وهذا ما يفرض على واشنطن البحث عن سبل لتشديد العقوبات المفروضة على طهران، إلى جانب فرض عزلة دولية على القيادة الإيرانية. أما اسطنبول من ناحيتها فترفض بشدة هذا النهج، وتطالب بتبني سياسات أكثر توازناً وأقل ميلاً للمواجهة مع طهران. وفي هذا السلوك التركي، مصحوباً بحدة نبرة النقد الذي توجهه اسطنبول لإسرائيل، ما يرجح خسارة تركيا لمزيد من الأصدقاء والمتعاطفين داخل الكونجرس الأميركي. ويجدر بالذكر هنا أن الكونجرس كان شديد الدعم والتعاطف مع اسطنبول، وكثيراً ما دافع عنها في وجه مجموعات الضغط اليونانية والأرمينية، التي حاولت ممارسة نفوذها من داخل الكونجرس بهدف تحميل تركيا المسؤولية عن الجرائم التي يقال إنها ارتكبتها بحق كلتا العرقيتين اليونانية والأرمينية في الماضي. وإذا ما أضفنا إلى قائمة القضايا هذه كلها، تزايد رفض الأوروبيين للهجرة الإسلامية لأراضيهم، وكذلك قوة معارضتهم لطلب انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، فسوف ندرك حينها حقيقة الأسباب التي ربما تدفع باسطنبول لتوسيع المسافة الفاصلة بينها وبين الغرب، في مقابل التحول مرة ثانية باتجاه أن تكون قوة إقليمية رئيسية كبرى مستقلة في منطقتي الشرق الأوسط وبحر قزوين. وفيما لو تمسك الأوروبيون بمعارضتهم لانضمام تركيا لعضوية اتحادهم، فأرغموها بذلك على السير نحو إضعاف علاقاتها بهم، فإن من شأن هذا البعد أن يحدث تغييرات كبيرة في توازن القوى الإقليمية إلى مدى لا تعرف عواقبه في الوقت الحالي على مستقبل السلام والازدهار الاقتصادي، إقليمياً ودولياً.