إن مواصلة البحث عن حلّ للصراع الإسرائيلي -الفلسطيني من خلال لغة الحلول لن تُفضي إلا إلى مزيد من التعثر والإخفاقات. لأن لغة الحلول المتداولة حتى الآن تمحورت في الإجرائي والتقني وفي البحث عن "المصالح المشتركة" للجانبين. وفي مثل هذه الحالة يتم تضييق مساحة الحل المتداول إلى مستوى الراهن واليومي والعملي. ورغم أهمية هذه العوامل في حياة الشعب الفلسطيني بشكل خاص، فإن عوامل أعمق تظلّ خارج التداول، وهي العوامل القِيَمية المعنوية أو تلك المستترة، وهي أساسية في الصراعات القومية المزمنة. ومن هنا يتوجب توسيع دائرة التفاوض وتخليصها من تخوم الحلول الإجرائية والراهنة وإطلاق التفاوض واسعاً في حدود لغة المصالحة التاريخية بين الشعبين. ومثل هذا التغيير في لغة التداول سيضع النقاط الحقيقية للصراع على السطح وسيوفر أفقاً أوسع للعملية التفاوضية. فاتفاقيات أوسلو أظهرت أن عملية السعي نحو الحلول محددة جداً، حيث هدفت الاتفاقيات إلى تخفيف وطأة الاحتلال وتحسين شروط عيش الفلسطينيين تدريجياً من خلال إجراءات على الأرض. وقد يكون هذا البُعد مهماً بحد ذاته خاصة للواقعين تحت الاحتلال، لكنه لم يأت من إدراك بضرورة تغيير السياق الصراعي، بل ترجمة له وانعكاس لمبنى القوة فيه. ومن هنا فقد وجدنا في الجانب الفلسطيني، كما في الجانب الإسرائيلي، قوى واسعة تعمل ضده. وإلى ذلك، تضمنت العقلية الإسرائيلية التي أنتجت التوجه الإسرائيلي نحو اتفاق "أوسلو" عوامل فشله، بدلالة أن الاتفاق خضع في أساسه لاعتبارات الأمن الإسرائيلية التي التقت مع مصلحة فلسطينية جزئية ومؤقتة، وليست تاريخية، في تخفيف قبضة الاحتلال. كما افترض الاتفاق أن المشكلة كامنة في الاحتلال وتبدأ منه، وهو ما يعني شطب المسألة الفلسطينية في شوطها الأول، أي منذ النكبة إلى احتلال عام 1967. وعلى المستوى ذاته لم تتعاط لغة التفاوض مع المكونات المعنوية للصراع. فهي لم تتضمن الاعتراف الإسرائيلي بالظلم والغبن التاريخيين اللذين أوقعهما المشروع الصهيوني بالشعب الفلسطيني، وقد تجسّد في إقامة إسرائيل. كما أنه لم يتعاط مع التاريخ الذي أوجد قضية اللاجئين. بمعنى أنه لم يكن منصفا للفلسطيني، لا في المستوى اليومي ولا في المستوى التاريخي ولا في المستوى المعنوي. كما لم يأخذ بعين الاعتبار أيا من العوامل الأساسية للصراع: الترانسفير، الاحتلال، اللاجئون، القدس، السيادة. وفي الجانب الإسرائيلي، لم يتطرّق اتفاق أوسلو إلى الخوف الوجودي اليهودي، ولا إلى المحرقة وأثرها في التجربة الإسرائيلية. بمعنى أن الاتفاق في الشق الإسرائيلي لم يحمل إلا سلسلة من التدابير والإجراءات التي لم تنفذ إلى صميم الوجود اليهودي في إسرائيل (فلسطين المحتلة عام 1948)، ولم يطوّر آلية منح الشرعية لهذا الوجود في المحيط العربي. يحتاج الفلسطينيون والإسرائيليون إلى تطوير لغة المصالحة. لعل الوقت لهذا قد حان الآن. فبعد الانتفاضة الثانية، ثم الحرب الأخيرة على غزة، لا أعتقد أن العودة إلى لغة اتفاقيات أوسلو و"حل الدولتين" هو التطور المطلوب لزحزحة الأوضاع. لا بُدّ من الذهاب إلى لغة المصالحة التي تفترض في أساسها التاريخ والقيم والجوانب المعنوية والوجودية... كمنطلقات لتحقيق التسوية. فعملية المصالحة يُفترض أن تتعاطى مع المسألة الفلسطينية منذ نشأتها ومع النكبة وقضايا اللاجئين وضياع الوطن.. إلخ. مرزوق حلبي كاتب ومحلل سياسي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كومون جراوند" الإخبارية