مبادرة "الحصبة"... وفوائد الشراكة الدولية
لسبب أو لآخر سقطت بعض الأمراض من الوعي الصحي العام، نتيجة انتشار اعتقاد خاطئ بأن الطب الحديث قد نجح في قهر هذه الأمراض بشكل تام، وفي احتواء آثارها المدمرة التي ظل يعاني منها أفراد الجنس البشري لآلاف السنين. وهذا الوضع ينطبق إلى حد كبير على مرض الحصبة، الذي يعتقد الكثيرون خطأً أنه أصبح لا يشكل خطراً يذكر، على رغم أن أكثر من 450 طفلا يلقون حتفهم يومياً بسبب الحصبة حالياً، وهي الوفيات التي بلغ مجملها قرابة الثلاثة أرباع مليون في عام 2000 فقط. وهذا يعني أن الوفيات التي تنتج عن الحصبة في الشهر الواحد تزيد بأضعاف عن مجمل الوفيات التي نتجت عن فيروس إنفلونزا الخنازير منذ ظهوره في شهر مارس وحتى الآن.
غير أن هذا لا يعني أن الطب الحديث، ومنذ تطوير التطعيم ضد الفيروس في عام 1963، لم ينجح في خفض الثمن الإنساني الفادح للحصبة خلال العقود الخمسة الأخيرة. فقبل تطوير هذا التطعيم، تظهر التقديرات أن فيروس الحصبة قد تسبب في وفاة 200 مليون شخص خلال المئة وخمسين عاماً الأخيرة وحدها. ويعود تاريخ أول وباء مسجل للحصبة إلى منتصف القرن الأول الميلادي، وهو المعروف بوباء "جالن"، الذي تسبب حينها في وفاة ثلث السكان في بعض المناطق، وإلى تدمير جزء كبير من الجيش الروماني حينها. وقد تكرر هذا السيناريو مرات عدة، تسبب فيروس الحصبة في كل مرة منها في مقتل جزء كبير من السكان -نصف السكان في بعض الأحيان- وخصوصاً في مناطق العالم الجديد مثل أميركا الشمالية والجنوبية، بسبب فقدان مجتمعات السكان الأصليين لأي مناعة ضد المرض، كونه مرضاً جديداً على تلك المناطق حينها. ويعود الفضل إلى الطبيب المسلم محمد بن زكريا الرازي، في توصيف المرض بشكل علمي دقيق من خلال كتابة الشهير "كتاب في الجدري والحصبة"، الذي كان قد خطه في بداية القرن العاشر الميلادي، وظل مرجعاً للأطباء في الدول الإسلامية والدول الأوروبية لقرون تلت.
والحصبة مرض فيروسي، يصيب الجهاز التنفسي، وينتقل بنفس أسلوب انتقال الأمراض التنفسية الأخرى الشائعة، مثل الإنفلونزا، أو البرد العادي، من خلال الإفرازات التنفسية، أو الرذاذ المصاحب لكحة أو عطس المريض. وتظهر أعراض المرض بعد أسبوعين تقريباً من حدوث العدوى، في شكل حمى شديدة تصل أحياناً إلى أربعين درجة مئوية، مع كحة، وإفرازات من الأنف، واحمرار شديد بالعينين. وتترافق هذه الأعراض مع ظهور طفح جلدي عام أحمر اللون، مصاحب في يومه الأول ببقع بيضاء مميزة على جدار الفم من الداخل. ويتميز فيروس الحصبة بقدرته الهائلة على العدوى، حيث غالباً ما تؤدي إصابة أحد أفراد العائلة، إلى إصابة 90 في المئة من بقية العائلة الذين لم يتعرضوا للفيروس من قبل أو لم يتم تطعيمهم سابقاً. ويتميز فيروس الحصبة أيضاً بنسبة وفيات مرتفعة جداً، تصل إلى 28 في المئة ممن يصابون بالفيروس، أو واحد من كل أربعة أشخاص تقريباً، وإن كانت هذه النسبة تنخفض إلى ثلاث فقط من كل ألف إصابة في الدول المتقدمة بسبب تطور الرعاية الطبية والخدمات الصحية.
وللأسف بلغت الوفيات الناتجة عن العدوى بفيروس الحصبة أكثر من 733 ألفاً عام 2000 ، على رغم أن التطعيم المتوفر فعال جداً في الوقاية من المرض. ويعرف التطعيم ضد الحصبة بالتطعيم الثلاثي، بسبب توفيره للوقاية ضد الحصبة العادية، وضد التهاب الغدة النكفية، وكذلك الحصبة الألمانية. وإن كان هذا التطعيم قد تعرض لنكسة شديدة عام 1998، مع نشر نتائج دراسة تشكك في وجود علاقة بين استخدامه لدى الأطفال، وبين زيادة احتمالات إصابتهم بالتوحد في مراحل لاحقة من حياتهم. وعلى رغم أن مراجعة الدراسة الأولية، وتحليل نتائج العديد من الدراسات اللاحقة، أثبتت عدم وجود مثل هذه العلاقة، وأن التطعيم الثلاثي آمن تماماً، إلا أن الكثير من الآباء عزفوا عن تطعيم أبنائهم بسبب تلك المخاوف، مما أدى إلى تصاعد معدلات الإصابة والوفيات بسبب المرض في دولة مثل بريطانيا.
وهذا ما سلط الضوء على حقيقة أن مشكلة الحصبة، والوفيات الناتجة عنها، هي مشكلة توفر التطعيم، وتقبل الآباء له، وليست مشكلة فعالية. فمن الممكن نظرياً القضاء على فيروس الحصبة تماماً، إن أمكن تطعيم جميع أطفال العالم، كما حدث مع فيروس الجدري من قبل. وهو ما دفع العديد من الحكومات، والمنظمات العاملة في مجال الصحة العامة، إلى بدء المبادرة الدولية المعروفة بـ"مبادرة الحصبة" في عام 2001 ، بهدف خفض الوفيات الناتجة عن الحصبة بمقدار تسعين في المئة بحلول عام 2010. وبالفعل، وحتى يومنا هذا تحقق هذا الهدف بشكل كبير. حيث أعلن القائمون على مبادرة الحصبة في بداية هذا الشهر، أن وفيات الحصبة في عام 2008 قد انخفضت بمقدار سبعة وثمانين في المئة، لتصل حالياً إلى 164 ألفاً فقط سنوياً، وهو ما يترجم في النهاية إلى انخفاض بأكثر من نصف مليون سنوياً، أو أربعة ملايين طفل في الأعوام الثمانية الماضية. ومثل هذا النجاح الهائل، يظهر بشكل جلي مدى قدرة المبادرات الدولية في مجال الصحة العامة -وخصوصاً المعتمدة على التطعيمات المتوفرة منذ عقود- في خفض الثمن الإنساني للكثير من الأمراض الُمعدية التي ظل أفراد الجنس البشري يرزحون تحت وطأتها لآلاف السنين.
د. أكمل عبدالحكيم