يحتاج الآن أوباما، على نحو عاجل، النأي بواشنطن عن الأعمال الاستفزازية وغير الشرعية التي تقوم بها الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة في القدس. وهو في حاجة ماسة إلى القيام بذلك لإنقاذ مشروع حل الدولتين الذي يدعمه كمخرج من الصراع بين الإسرائيليين والعرب. وهناك سبب مهم آخر يدعوه للقيام بذلك، وهو حماية الجنود الأميركيين الموجودين في مختلف أنحاء العالم. فالقدس تمثل قضية جوهرية بالنسبة لقرابة مليار ونصف مليار مسلم في العالم. وإذا ما أخذنا ذلك في الحسبان، وعرفنا أيضاً أن القوات الأميركية تواجه أوضاعاً متوترة في الوقت الراهن في عدد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة التي تنتشر فيها، فسندرك أن لواشنطن مصلحة أكبر من ذي قبل في الحفاظ على ود، وحسن نوايا شعوب تلك الدول. هذه هي المحصلة التي خرجتُ بها من خلال الجولة التي قمت بها مطلع هذا الشهر بالتعاون مع آخرين لدراسة أحوال المنطقة. ففي هذه الجولة أكد لنا قادة مؤيدون للولايات المتحدة في لبنان والأردن ومصر والضفة الغربية أهمية القدس بالنسبة لحظوظهم السياسية، بل ولحظوظ غيرهم من حلفاء الولايات المتحدة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. ومن المعروف أن إسرائيل تسيطر على الجزء الشرقي من القدس، بما في ذلك" المدينة القديمة" المسورة ذات الأهمية التاريخية منذ حرب السادس من يونيو 1967. ومنذ ذلك الوقت استثمرت الحكومات الإسرائيلية الكثير من أجل زرع العديد من المستوطنين الإسرائيليين في القدس الشرقية وإخراج الفلسطينيين من سكان المدينة الأصليين من ديارهم سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين. وفي الشهور الأخيرة، تفاقمت الحملة التي تقوم بها إسرائيل لتغيير معالم المدينة وتركيبتها السكانية. ففي 16 نوفمبر، أعلن نتنياهو عن خطط لبناء 900 وحدة جديدة في مستعمرة "جيلو" الواقعة في جنوب شرقي القدس. ويتردد أنه قد أصدر هذا الأمر مباشرة عقب مقابلة أجراها مع السيناتور جورج ميتشيل، مبعوث أوباما الخاص للشرق الأوسط، طلب منه الأخير فيها عدم القيام بذلك. وإذا استثنينا الاستياء اللفظي الذي صدر من واشنطن.. هل رأينا أي ردود أفعال ملموسة أخرى؟ الجواب جاهز ومعروف: لم نرَ شيئاً حتى الآن. على العكس، في الوقت الراهن تحولت القدس إلى برميل بارود، إذا ما اشتعل، فإن المصالح الأميركية ستتعرض لمخاطر جسيمة، وخصوصاً أن الولايات المتحدة ينظر إليها من قبل العرب والمسلمين، في الوقت الراهن، على أنها تتغاضى عن الأفعال الإسرائيلية الخطيرة هناك. في العقود الماضية، وحين كانت تنشأ خلافات في الرأي بين واشنطن وتل أبيب، كان أنصار إسرائيل يقولون إنها تقف في الخط الأول من مقاومة الإرهاب، وبالتالي فإنه يجب على الأميركيين ألا يتشككوا في قراراتها، أو سياساتها. والحال أن هذه الحجة، أو بالأحرى الذريعة، لم تكن مقنعة تماماً وقتها، وهي ليست كذلك الآن بالتأكيد، خصوصاً بعد أن انقلب الموقف رأساً على عقب، وأصبح الأميركيون هم الذين يقفون في خط النار الأول في مقاومة الإرهاب، وأصبحت حياتهم، ومصالح الولايات المتحدة بالتالي، هي المعرضة للخطر الداهم. إن واشنطن بعدم محاسبتها لإسرائيل، تقوم دونما ضرورة، وبشكل متهور، بإثارة استياء مئات ملايين المسلمين الذين تعتمد حياة جنودنا في العراق، وأفغانستان، وغير ذلك من البلدان، على حسن نيتهم. وعندما كنا في الشرق الأوسط، خلال الجولة، لمسنا أيضاً سياسات إسرائيل المدمرة بشكل مباشر، ونستطيع أن نقول إن الدولة العبرية تقوم في الوقت الراهن بما يلي: - توسيع المستوطنات الإسرائيلية الكبيرة التي تطوق المدينة من الشرق، والشمال، والجنوب. - تعزيز المستوطنات غير الشرعية الأقل حجماً التي تقع في قلب الجيوب الفلسطينية التي لا تزال قائمة في المدينة. - استكمال الجدار الفاصل البالغ ارتفاعه 24 قدماً، الذي يحيط بالعديد من الأجزاء الفلسطينية في المدينة، ويخترق قلب الأجزاء الأخرى. - تفويض مسؤولية الحفريات الأثرية في المناطق الحساسة لمنظمات المستوطنين التي عملت بشكل محموم -وغير علمي تماماً- على حفر أنفاق تقع بالضبط تحت "الحي الإسلامي التاريخي" الواقع في المدينة القديمة المسورة. - اتخاذ الإجراءات والتدابير التي تجعل من المستحيل تماماً على الفلسطينيين الذين يعيشون في المدينة، إجراء التوسيعات اللازمة على منازلهم، مع الاستمرار في عمليات هدم مساكن الفلسطينيين التي تعتبرها إسرائيل "غير شرعية". ولا حاجة للتذكير بأن هذه التصرفات الإسرائيلية جميعها غير شرعية بموجب القانون الدولي، لأن إسرائيل تسيطر على القدس الشرقية وما يحيط بها من مدن الضفة الغربية، بصفتها قوة احتلال غاشم، وليس بصفتها حكومة شرعية ذات سيادة على تلك الأراضي. تخيلوا، لو قامت واشنطن عقب احتلال القوات المسلحة الأميركية لبغداد، باتخاذ خطوات مماثلة! من حسن الحظ أنها لم تفعل، بل قامت بدلا من ذلك بتفويض السلطة مجدداً للعراقيين أنفسهم. ولأن الولايات المتحدة، إلى حد كبير، هي أكبر داعمي إسرائيل الدوليين، فإن المساعدة التي تمنحها لحلفائها يجب ألا تكون غير مشروطة، وألا تستغل سوى لتعزيز مصالح الولايات المتحدة نفسها، أولا وأخيراً. وفي الشرق الأوسط يعني هذا أن تخصص الولايات المتحدة دبلوماسيتها، وأموالها، لدعم إقامة سلام عادل ودائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ودعم حكم القانون في مناطق العالم الأخرى التي تسودها الفوضى والاضطراب. إن معظم العالم ينظر إلى المحاولات الإسرائيلية لتغيير البنية السكانية لمدينة القدس على أنها تعني عدم احترام القانون الدولي، بل والسخرية منه. وهذا الأمر يعد كارثياً لدبلوماسية السلام الأميركية التي قامت دوماً على أن الوضع النهائي للمدينة سيتحدد من خلال المفاوضات، وليس بناء على قرار منفرد، ومن خلال فرض حقائق جديدة على الأرض. وربما أصبح أوباما يدرك الآن، وبعد ما قاله في خطاب القاهرة، أن تكلفة التصدي لإسرائيل -وهو ما قام به عدد محدود من الرؤساء الأميركيين من قبل- جسيمة للغاية. ولكنه يجب أن يدرك كذلك أن الخضوع للسياسات الإسرائيلية في القدس يمثل خطراً أكثر جسامة على حياة الأميركيين (والإسرائيليين والفلسطينيين بالطبع). إن اللحظة الراهنة، تمثل فرصة مناسبة لأوباما كي يرسم مساراً جديداً، وعادلا في الشرق الأوسط على قاعدة ثابتة تقوم على تحقيق المصالح الأميركية، في المقام الأول. وهو يستطيع أن يفعل ذلك بالربط بين مساعدات بلاده لإسرائيل وبين التزام الأخيرة بالقانون الدولي في المدينة. إن الفلسطينيين الذين لا يزالون يقيمون في القدس، ويبلغ تعدادهم 250 ألف شخص على وجه التقريب، يحتاجون إلى مثل هذا القرار وبشدة. كما يحتاجه أيضاً ما يزيد على 200 ألف جندي أميركي ينتشرون اليوم في دول ذات أغلبية مسلمة، ويسودها التوتر. هيلينا كوبان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتبة ومحللة سياسية أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"