المجتمع العربي في مواجهة الحداثة!
على رغم أن تصنيف النظم السياسية وفق علم السياسة الغربي إلى نظم شمولية ونظم سلطوية ونظم ليبرالية، قد يكون مفيداً في ذاته لتصنيف النظم السياسية العربية، إلا أنه في الواقع يقصُر عن التوصيف الدقيق لهذه النظم. وذلك لأن التصنيف الغربي يستند إلى حقائق تاريخية وسياسية سادت في المجتمعات الأوروبية أساساً، وهو وثيق الصلة بالخصوصيات التاريخية لهذه المجتمعات.
غير أن التأمل في النظم السياسية العربية سرعان ما يصل بنا إلى نتيجة مهمة، هي أن هذه النظم لها خصوصية ثقافية فريدة، لأنها تستند إلى تراث طويل من الحكم الإسلامي في ظل نظام الخلافة، بالإضافة إلى أن الممارسات التاريخية لكل نظام سياسي عربي والتاريخ الاجتماعي الفريد لكل قُطر، يجعل مسألة التصنيف عملية صعبة، وكذلك الحال بالنسبة للتعميمات.
ولذلك فإن ظاهرة الإصلاح السياسي في العالم العربي، التي تعرف بأنها التحول من السلطوية إلى الديمقراطية، والتي هي موضع الاهتمام الشديد للنخب السياسية العربية وللمثقفين العرب في السنوات الأخيرة، كما تركز عليها الدول الغربية، تحتاج إلى مناهج متعددة لدراستها، بحيث لا تكون مستقاة أساساً من النماذج المعرفية الغربية، لأن هذه النماذج تعكس خبرات سياسية ومجتمعية متميزة، قد لا يكون لها نظير في بنية المجتمع العربي.
وقد يكون من المناسب أن نركز على الإبداع المعرفي العربي الذي قام به الفيلسوف المغربي المعروف د. محمد عابد الجابري، في مجال فهم "العقل السياسي العربي"، والذي يصلح أساساً مبدئياً لتصنيف النظم السياسية العربية.
يقرر الجابري في كتابه عن "العقل السياسي العربي" أنه قام على عدة مفاهيم أساسية هي العقيدة، والقبيلة، والغنيمة. ويقصد بالعقيدة الإسلام باعتباره الدين الذي أعاد صياغة قيم وتوجهات وبنية المجتمعات العربية منذ بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام به، وقيام الدولة الإسلامية الكبرى.
أما القبيلة فكانت -وربما ما زالت حتى الآن- هي العمود الرئيسي للمجتمعات العربية المختلفة. والقبيلة باعتبارها نسقاً قرابياً متميزاً لها في الممارسة تأثيرات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية لا حدود لها. وما زالت للقيم القبلية فاعليتها في عديد من البلاد العربية، بما في ذلك مصر التي قد تكون -نظراً لظروفها الخاصة- احتكت بالغرب مبكراً وتحولت بشكل ما إلى مجتمع شبه حديث.
فالناس في صعيد مصر الذين ينحدرون من صلب قبائل عربية أساساً، ما زالوا يمارسون عادة "الثأر" المعروفة وهي عادة قبلية شهيرة.
ونصل أخيراً إلى المفهوم الثالث وهو الغنيمة، وتُرد مركزيته إلى أن موضوع الغنائم وكيفية توزيعها، حظي باهتمام فائق نظراً لتوسع الفتوحات الإسلامية، وضرورة وضع نظام للتوزيع وفق قواعد دقيقة.
لكن، ما الذي يحدث لو حاولنا تطبيق المفاهيم التي قام على أساسها العقل السياسي العربي -كما حددها الجابري- على صياغة تصنيف للنظم السياسية العربية؟ وإذا كان هذا التصنيف الثلاثي كان يصلح للتطبيق على المجتمعات العربية فيما مضى، فهل يصلح للتطبيق الآن؟
في محاولة لفهم النظم السياسية العربية المعاصرة، رأى بعض الباحثين أن التصنيف المذكور ينطبق مع بعض التعديلات. فهناك نظم سياسية عربية تقيم شرعيتها السياسية على أساس حماية "العقيدة"، غير أن كل النظم السياسية العربية يسيطر عليها بدون أدنى استثناء حكم العشائر!
وقد تكون هذه العشائر أو القبائل تقليدية، كما هو الحال في اليمن والسعودية والأردن وليبيا والعراق، كما أنها قد تكون قبائل حديثة تأخذ شكل الأحزاب السياسية، في البلاد التي كان يطلق عليها البلاد "الثورية" مثل العراق، وسوريا، وقد تأخذ شكل "الشلل السياسية"، كما هو الحال في بلد مثل مصر وتونس على سبيل المثال.
ولا شك أن مفهوم "الغنيمة" ينطبق في الوقت الراهن - على سبيل الاستعمال المجازي - على بعض الدول النفطية العربية، التي يعد النفط بالنسبة لها هو "الغنيمة الكبرى" التي سمحت لها بتطوير مجتمعاتها، من ناحية ومساعدة الدول العربية الأخرى من ناحية أخرى.
والواقع أن المعضلة الديمقراطية العربية التي تتمثل في عدم رغبة النخب السياسية العربية الحاكمة في قبول مبدأ المشاركة في السلطة، لا يمكن ردها فقط إلى أسباب سياسية، بل إن التحليل الثقافي يمكن أن يساعدنا على فهم أعمق لها. ولو طبقنا منهجية التحليل الثقافي لوصلنا إلى نتيجة رئيسية مؤداها أن المجتمع التقليدي العربي لم يستطع اجتياز اختبار الحداثة الغربية، التي كانت أساساً للتقدم الغربي كله في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة. وهذا هو السر وراء ما يطلق عليه "العجز الديمقراطي العربي"، ونعني قصور النظم السياسية العربية عن إتمام عملية الإصلاح السياسي والانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية.
والحداثة السياسية الغربية تعني الديمقراطية في المقام الأول، بمفرداتها المعروفة وهي حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم والانتخابات الدورية النزيهة سواء كانت برلمانية أو رئاسية إذا كان النظام السياسي جمهورياً، وقبل ذلك كله تداول السلطة.
أما الحداثة الفكرية فتقوم على مبدأ أن "العقل هو محك الحكم على الأشياء" وليس النص الديني. وفي مجال الحداثة الاقتصادية تم الانتقال من الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد الرأسمالي. وأخيراً في مجال الحداثة الاجتماعية تم الانتقال من إطار القيم التقليدية إلى القيم الحديثة، التي تركز على حرية الأفراد واحترام حقوق الإنسان.
ولو طبقنا معيار الحداثة الغربية بكل أبعادها لاكتشفنا أننا في العالم العربي أخفقنا لأسباب متعددة في تحقيق الديمقراطية، وفشلنا في تحويل اقتصادنا البدائي ريفياً كان أو زراعياً إلى اقتصاد رأسمالي ناجح، ولم نستطع أن نحقق الحداثة الفكرية، لأن النص ما زال مهيمناً على العقول والأذهان، سواء لدى النخبة أو لدى الجماهير، مما ساعد على توليد بؤر متعددة للفكر الديني المتطرف، الذي تحول في بعض الأحيان إلى حركات إرهابية مدمرة.
ومعنى ذلك كله أن المعضلة الديمقراطية العربية لن تحل إلا إذا استطعنا أن نجابه المشكلات التي تعوق تطبيق معايير الحداثة مرة واحدة.
فلا حداثة سياسية ولا ديمقراطية بغير تحكيم العقل، ولا تحول ديمقراطي بغير الانتقال من دوائر القيم التقليدية المغلقة إلى دوائر القيم العصرية المنفتحة.
وكل هذا التحول المرغوب شرطه المبدئي هو الانتقال من حكم البنيات الاجتماعية الفرعية مهما تعددت صورها التقليدية والحديثة، إلى حكم الشعوب!