فاجأ الأوروبيون أنفُسَهُم والعالم باختيار رئيس الوزراء البلجيكي السابق، "رومبي"، رئيساً للاتحاد، واختيار البريطانية أشتون مفوَّضةً عُليا للشؤون الخارجية للاتحاد. ومع أنّ منصب رئيس الاتحاد شكليٌّ أو بروتوكولي؛ فلأنه يتمُّ لأول مرةٍ بعد مؤتمر برشلونة؛ فقد كان المنتظَرُ اختيار رجلٍ ذي سمعةٍ عاليةٍ من إحدى الدول الأوروبية الكبرى أو الوازنة. ولأنّ مفوَّض السياسات الخارجية منصبٌ مؤثّرٌ بالفعل تولاّه من قبل رجلٌ قويٌّ وخبير هو الإسباني سولانا؛ فقد كان المنتظرُ أيضاً أن يأتي إليه شخصٌ كان وزيراً للخارجية في إحدى الدول الأوروبية المهمة على الأقلّ. وبخاصةٍ أنّ البريطانية التي اختيرت لا تملكُ خبرةً متميِّزةً في أيٍّ من مناطق العالَم أو مُشكلاته! فلماذا انتهى الأمر على هذا النحو بعد نقاشاتٍ ومفاوضاتٍ دامت شهوراً، وطُرحت خلالها ترشيحاتٌ للمنصبين من جانب شخصياتٍ كبيرةٍ ومعروفةٍ عالمياً؟ بالنسبة للمنصب الأول، دار على مدى حوالي العام اسم رئيس الوزراء البريطاني السابق بلير باعتباره مرشَّحاً شبه وحيد للموقع. وتحدث لصالحه كثيرون من بلده ومن الولايات المتحدة. وبلير، فضلاً عن خبرته الواسعة بالشؤون العالمية، هو المبعوث الخاصّ للجنة الرباعية للنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي. ولأنّ هذا الملفّ هو أحد ملفَّين هما الأكثر حماوةً في المنطقة وربما في العالَم؛ فقد كان منتظراً أن تلعب خبرته في هذا الشأن دوراً مرجِّحاً في اختياره. ويقول بلير مند سنواتٍ أيضاً إنّ عنده التزاماً عاطفياً ودينياً تُجاه قضية السلام في الشرق الأوسط، وإنه سوف ينذر ما تبقّى له من نشاطٍ وهمّةٍ للتقدم نحو حلّ الدولتين. والمعروف أنه انجليكانيٌّ في الأصل، لكنه اعتنق الكاثوليكية عندما غادر منصبه في رئاسة الوزارة البريطانية قبل حوالي ثلاث سنوات. ولذا فبالإضافة إلى البابا والأوروبيين الكاثوليك، سعى البريطانيون أيضاً إلى إحلاله في هذا المنصب. ولدى الأوروبيين العِتاق سببٌ ثالثٌ أو رابع لتفضيل بريطاني في منصب الرئاسة. فالمعروف أنّ للبريطانيين تقليدياً تحفظاتٌ على الاندماج الكامل في الاتحاد، ولذا فإعطاؤهم هذا المنصب السامي للمرة الأُولى خليقٌ أن يدفعهم أكثر باتّجاه الاتحاد والاندماج فيه. على أنَّ كلَّ هذه الاعتبارات ما كانت كافية. ويختلف المُراقبون في تبيان أسباب ذلك. فمنهم من قال إنّ الجفاء البريطانيَّ تُجاه الاتّحاد هو العلّة، وليس الفضيلة. إذ لماذا يُعطى أُناسٌ يترددون في الاندماج بالاتحاد، ويعرقلون التوحُّد في سياساته، منصباً سامياً كهذا هو رمزٌ للاندماج شبه الكامل؟ لكنْ لو كان هذا هو السببُ للحيلولة دون وصول بلير، فلماذا لم تأت للمنصب شخصيةٌ من بلدٍ أوروبي كان بين المؤسِّسين مثل فرنسا أو ألمانيا أو حتى إيطاليا أو إسبانيا؟ وهناك من يقول إنّ الدول الأوروبية الكبرى، رغم إسهاماتها الأكبر في ميزانية الاتّحاد، ما عادت هي المتحكمة وحدها بالقرار الأوروبي، بعد أن قارب عددُ الدول الداخلة في الاتحاد الثلاثين. لذلك فقد آثرت تلك الدول الصغيرة والمتوسطة رجلاً من قماشتها وقياسها، وليس من الدول الأوروبية الكبرى، بحيث تظلُّ قادرةً على التأثير في خطواته وقراراته. على أنّ فريقاً من العارفين يذهب إلى أنّ الدول الأوروبية الكبرى، التي أعرضتْ عن اختيار بلير، حفظاً لاستقلالية قرارِها الوطني، هي التي آثرتْ إبقاء الرئاسة الأوروبية الجديدة ضعيفةً، حتّى لا تؤثّر في قراراتها وأدوارها المستقلة. ويُضافُ لذلك الشخصية الخاصة للرئيس الفرنسي ساركوزي، والذي ينتهج سياسةً جديدةً ومنفردةً بداخل أوروبا وخارجها لا تقبل التلاؤم أو التنسيق. ثم إنه إذا كان من المعروف أنّ المحافظين أو الديموقراطيين المسيحيين هم الذين أسَّسوا السوق الأوروبية بعد الحرب الثانية؛ فإنّ الأجيال الجديدة من القادة المُحافظين مثل ميركل وبيرلسكوني، ليست على الدرجة نفسِها من الحماس للشخصية الأوروبية الموحَّدة. ويمضي الذين يميلون إلى هذا الرأْي، إلى حدّ القول إنه حتى الحساسيات الدينية، بين الكاثوليك والبروتستانت، لعبت دوراً من نوعٍ ما في الوصول إلى الخيار البلجيكي. والواقع أنّ الخيار البلجيكي في الرئاسة، والبريطاني في مفوضية السياسة الخارجية، له دلالاتٌ فاقعة. فبريطانيا بالذات تنفرد بشكلٍ شبه تام في قرارها الخارجي عن الأوروبيين الآخَرين، بل إنّ علاقاتها بالولايات المتحدة تتقدم في الاعتبار على علاقاتها بشقيقاتها الأوروبيات. أمّا بلجيكا فهي مثالٌ على الفشل الدولي أو السياسي في أوروبا كلّها. فقومياتها الثلاث عجزت منذ سنواتٍ عن الاتفاق على تشكيل حكومة، بحيث توالت الحكومات المؤقتة كلَّ ثلاثة أو ستة أَشْهُر؛ فكيف سيجمع رئيس وزرائها السابق سائر الأوروبيين، إذا كان جهده الكبير، وشخصيته التصالحية، قد عجزا عن ضمّ شتات إثنيات بلده الصغير؟! وأياً تكن الأسباب الحقيقية؛ فالواضح أنه ما عادت هناك إرادةٌ أوروبيةٌ غلاّبةٌ تسعى وتُناضل من أجل التوحُّد. فقد تحقق بواسطة الاتحاد أمران: التنسيق الاقتصادي والمالي، والمساعدة على استيعاب شرق أوروبا ودمقرطتها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وتبرز اليومَ عدة أنواعٍ من المشكلات تعذَّر على الأوروبيين الكبار تحقيق إجماع بشأنها: مدى التنسيق مع الولايات المتحدة من خلال حلف الأطلسي، والتنافُس على توثيق العلاقات مع روسيا الاتحادية، والالتزامات والأعباء بشأن البيئة وتغيرات المناخ، وحدود الالتزام بحلّ المشكلة الشرق أوسطية، وتكييف السياسات تُجاه الصين والهند في مجالات التبادُل التجاري والتنافُس، والموقف من المشكلات الاقتصادية المستعصية بالقارة الإفريقية. وفي كلّ هذه القضايا يملك الأوروبيون الكبار والمتوسطون أولويات مختلفة؛ لذا فهم لا يريدون أن يُرغَموا على التزاماتٍ مشتركةٍ لا يستطيع القادةُ إقناع شعوبهم بها. فالمعروف أنّ بريطانيا تُنسّق بشكلٍ تامٍ مع الولايات المتحدة دون غيرها. ورغم ذلك فثمة تذمُّرٌ شعبيٌّ أفضى إلى لجان تحقيق برلمانية بسبب المشاركة إلى جانب الولايات المتحدة في الحرب على العراق، وفي إرسال الجنود أيضاً إلى أفغانستان. وبلير هو المسؤول عن الأمرين اللذين أغضبا الشعب البريطاني، فكيف بالشعوب الأوروبية الأُخرى؟! ويتنافس الفرنسيون والألمان على العلاقات بروسيا والصين والهند، بسبب الفوائد الاقتصادية البارزة. كما أنّ سائر الأوروبيين لا يريدون التزاماتٍ كبرى في إفريقيا، ولا في الشرق الأوسط. وفي النهاية؛ فالاتحاد الأوروبيَّ بوضعه الحالي الهشّ، يحقِّق المتطلبات الأساسية للجميع، دون أن يُضرّ بالذاتيات الوطنية. أمّا ما يتجاوزُ ذلك فعليه اختلافٌ كثيرٌ وكبير. والإرادة الدافعة للثُنائي الفرنسي -الألماني لم تعُدْ موجودة، لاختلاف الإدراكات للضرورات بين القيادتين، وتقدم الاعتبارات الوطنية الخاصّة على فكرة أوروبا الواحدة بالداخل والخارج. لكنّ هذا كلّه معناه أنّ الدور الأوروبيَّ الذي كان واعداً في المشاركة والإسهام في حلّ مشكلة الشرق الأوسط، سيعرف مزيداً من التراجُع لسببين: الانكفاء للاهتمام بالمشكلات المحلية لدى البعض، وازدياد الميل إلى وجهة النظر الإسرائيلية في الصراع، مع غياب الشخصية الأوروبية الكبيرة التي تهتمُّ بالفعل بما يقع خارج حدودها.