ما وراء الأزمة المالية ------- كيف حلت الأزمة المالية بالعالم؟ ولماذا تبدو أقوى الاقتصاديات وأكثرها مناعة عرضة للاهتزاز والتداعي؟ هذه الأسئلة وغيرها تكررت في أكثر من كتاب أميركي سعى إلى فهم الوعكة الاقتصادية الكبرى التي تلم بالعالم وإدراك كنهها لاجتراح مخرج ينتشل الاقتصاد العالمي من مأزقه الحالي. وما أن تبين عمق الركود وفداحته حتى سارع الاقتصاديون والخبراء إلى اقتراح الحلول الاقتصادية، بل منهم من راح ينعي الرأسمالية كنظام استنفد أغراضه، لكن الكتاب الذي نعرضه اليوم بعنوان "ما بعد الأزمة" يمتاز أولا بأنه يأتي من الأطراف، فهو وإن كان على غرار معظم الكتب يفد إلينا من الغرب، إلا أنه يخالف القاعدة هذه المرة ويطل علينا من فرنسا التي يقول الخبراء إنها الأقل تأثراً بالأزمة الحالية مقارنة بباقي الدول الغربية نظراً لطبيعة اقتصادها المختلف نسبياً. فالكتاب الذي نعرضه هنا للفرنسي "جاك أتالي"، مستشار الرئيس الفرنسي الأسبق "ميتران" ومعد التقرير الرسمي الأخير حول النمو الاقتصادي في فرنسا، يجيب على نفس الأسئلة الاقتصادية الكبرى المرتبطة بمخاطر الركود والكساد المخيمين على العالم لكن من وجهة نظر فرنسية خاصة. فهذه النظرة وإن كانت تتفق مع التحليل العام لمسببات الأزمة وتنساق وراء مقولاتها الشاملة، فإنها تطرح تصوراً فريداً يقارب الاضطرابات الاقتصادية الراهنة من زاوية مختلفة ليست غريبة عن التقاليد الفرنسية في استنطاق الإشكالات الكبرى واستكناه أغوارها. يبدأ الكاتب بطرح المعروف عن الأزمة الاقتصادية وأسبابها التي تناولها المراقبون في أكثر من مناسبة مثل التأكيد على أن الركود الحالي انبثق أول الأمر من أزمة الرهون العقارية التي ظهرت في أميركا، وخصوصا في ولايتي كاليفورنيا وميامي اللتين شهدتا تراجعاً كبيراً في قيمة المنازل وعجز الدائنين عن سداد مستحقاتهم. وقد دفعهم إلى ذلك انخراط البنوك في عمليات إقراض عالية الخطورة دون ضمانات كافية وتشجيع أصحاب الدخول المحدودة على الاستدانة على أساس أن البيوت التي يشترونها كافية في حد ذاتها لتسديد الدين، وتحصيل ربح إضافي. ويتطرق الكاتب للخطوات التي لجأت إليها البنوك وصناديق التحوط وساهمت في تفجر فقاعة العقار، مثل تحويل الديون إلى سندات وأوراق مالية ثم تسويقها في شكل مشتقات قابلة للصرف وبيعها إلى مؤسسات مالية داخل الولايات المتحدة وخارجها على أنها مستندات مستردة ليتبين لاحقاً أنها مجرد حبر على ورق في ظل غياب السيولة وتراجع قيمة الأصول، لتتحول البنوك نتيجة لذلك إلى خزائن مليئة بأوراق عديمة الجدوى. لكن جاك أتالي الذي يستغرق في وصف الملامح التقنية للأزمة المالية يرجعها إلى أبعد من مجرد حركة ديون متهورة قادها قطاع مالي مستهتر ومنفلت من كل مراقبة، موضحاً ذلك بقوله "يمكن تفسير الأزمة المالية الأولى في عهد العولمة إلى عجز المجتمع الأميركي عن توفير رواتب تضمن الكرامة للطبقات الوسطى". وهكذا تنفصل الأزمة الاقتصادية من شقها المالي البحت لتكتسي بعداً اجتماعياً واضحاً ترجعها في عمقها إلى اختلالات النظام الاقتصادي، فالأزمة الحالية، حسب الكاتب، هي نتاج الفوارق الشاسعة في المجتمع الأميركي وعجز النظام الاقتصادي عن تحسين الظروف المعيشية للطبقة الوسطى. فعلى مدى السنوات الماضية ورغم النمو الاقتصادي الكبير الذي تحقق على أكثر من مستوى ظل دخل الأسر المتوسطة جامداً ولم يستفد من العولمة التي انحصرت مكاسبها في يد القطاع المالي بعدما جنى المصرفيون أرباحاً خيالية نتيجة تحرير الأسواق المالية ورفع الحواجز أمام تدفق رؤوس الأموال للاستثمار والمضاربة. وفي الوقت الذي كان فيه القطاع المالي يحقق مكاسب هائلة وكان الاقتصاد الافتراضي يتوسع بوتيرة غير مسبوقة، كانت القطاعات المنتجة، وتحديداً الصناعة، تتراجع وتتقهقر، إذ في غياب القدرة على إنتاج ثروات حقيقية اتجه النظام المالي نحو خلق ثروات افتراضية تستند إلى الائتمان ومشتقاته والتأمين عليها وأصبح المال يولد المال فتغول القطاع المالي على غيره وتربع على عرش الاقتصاد. لكن أليست الإشارة إلى الائتمان باعتباره أساس الأزمة الحالية أمراً مطروقاً، لاسيما بعد الإشارات المتكررة إلى تضخم القروض وانفجارها أولا في أميركا ثم لاحقاً في باقي الدول الغربية؟ هنا يغوص الكاتب أعمق من مجرد استعراض ما قاله آخرون حول الأزمة معتبراً أنها مرآة تعكس أزمة المجتمع برمته، فإذا كان المشتغلون في القطاع المالي مذنبين، إلا أنهم في كل الأحوال ليسوا المسؤولين الوحيدين عما يجري على الساحة الاقتصادية. فنحن جميعاً حسب الكاتب نتحمل قدراً من المسؤولية وساهمنا في انحراف النظام المالي عن مساره بتمسكنا الغريب بما يسميه الكاتب "التفكير الإيجابي" الذي يقرن النجاح بالتفاؤل. فقد سادت في السنوات الأخيرة مقولات عُبر عنها في العديد من الكتب التي تروج للتفكير الإيجابي والنظرة المتفائلة باعتبارهما أساس النجاح وعماده الأول. هذه النظرة ينتقدها الكاتب لأنها تخلط بين الواقعية والتشاؤم لارتكازها على حالة ذهنية معينة تصور النمو على أنه سيرورة تاريخية لا تقبل التراجع. لكن هل يمكن الخروج من أزمة ذات أبعاد بنيوية ترجع إلى طبيعة الأفكار والتصورات المتجذرة في المجتمع؟ وهل يمكن تغيير ثقافة التفاؤل المفرط والثقة العمياء في المستقبل؟ في الحقيقة يقترح الكاتب بعض الحلول التقنية والآنية مثل إعادة جدولة الديون الأميركية الخارجية منها والداخلية والحد من الاستدانة مع وضع الأسواق المالية تحت مراقبة الدولة، لكن الحلول الثقافية والذهنية الأبعد أثراً تبقى رهينة الصدمة الراهنة التي أحدثتها الأزمة في النفوس والجهد البيداغوجي الذي ينتظر المثقفين لتغيير أنماط التفكير المبالغة في تفاؤلها والمنفصلة عن الواقع. زهير الكساب ---------- الكتاب: ما بعد الأزمة الكاتب: جاك أتالي الناشر: فايار تاريخ النشر: 2009