في الوقت الذي تنهمك فيه حكومات الدول الغربية بإعادة النظر في استراتيجياتها الخاصة بأفغانستان، ينتشر الحديث والتقارير الإخبارية عن مدى التحديات المحيطة بإحراز تقدم أمني عسكري سياسي في تلك الدولة التي يعتبرها البعض "مقبرة الإمبراطوريات". فأفغانستان يسودها العنف وتجارة الأفيون، بينما ضعفت كثيراً ثقة المواطنين في حكومتهم، وازدادت تدخلات الدول المجاورة في شؤون البلاد الداخلية. وفوق ذلك كله تزداد شراسة مقاومة القبائل المتمردة التي لا تثق بأي دخيل أجنبي، سواء أكان بريطانياً أم سوفييتياً أم أطلسياً (حلف الناتو)، أم حتى كابول نفسها في حال خضوعها لإرادة القوى الأجنبية. وتعكس تجربة البنك الدولي في هذه البلاد كل المصاعب المذكورة آنفاً. فهي من أصعب بيئات العمل المالي الاقتصادي التي نعمل فيها. لكننا مع ذلك رأينا تقدماً نسبياً يحرز على الأرض، خاصة في قطاعات الصحة والتعليم والاتصالات والتنمية البشرية وتمويل المشروعات الاستثمارية الصغيرة. ومنذ عام 2002 التزم البنك الدولي بتوفير ما يقارب ملياري دولار لتمويل تلك القطاعات وبعض المشروعات، إلى جانب مشاركته لمانحين آخرين في إدارة صندوق ائتماني مخصص لأفغانستان بميزانية تبلغ 3.2 مليار دولار. وفيما يلي نلخص بعض الدروس التي استفدناها من تلك التجربة. ينبغي علينا أولا خلق البيئة الآمنة للتنمية هناك عن طريق الربط المحكم بين التنمية والأمن. فكلاهما يعزز الآخر خاصة عندما يتجه اهتمامنا إلى التنمية المجتمعية وحل النزاعات المحلية. وعليه فمن شأن عجز قوات الشرطة ونظامي القضاء والسجون، أن يحفز بيئة الفوضى وانعدام القانون، بما يؤدي إلى فقدان ثقة المواطنين في حكومتهم وتعاطفهم مع أعدائها في المقابل. ثانياً: يمكن لنا محاربة الفساد بمستوى أفضل من خلال تصميم نُظمٍ لمكافحته، بدلا من العظات حول أهمية الفضيلة أو إجراء تحقيقات لا طائل منها. وفي الوقت نفسه تهدد تجارة المخدرات بتجريم الحكومة الأفغانية نفسها، بالنظر إلى ضلوعها فيها. لكن هناك من الخطوات ما يمكن أن يحد كثيراً من ممارسات الفساد الحكومي في حال اتخاذها. ضمن هذه المعالجة اتبع وزراء مالية أفغانستان المهتمون بقضايا الإصلاح، خطواتٌ عمليةٌ استهدفت تبسيط المعاملات والإجراءات الحكومية مع توفر الشفافية اللازمة لها، بهدف الحد من فرص الفساد. وقد أسفرت هذه الخطوات عن رفع عائدات الخزانة العامة بنحو 75 في المئة خلال الربع الأول من العام المالي الحالي. كما اتخذت السلطات مؤخراً إجراءات استهدفت خفض الخطوات المطلوبة لتسجيل السيارات من حوالي 55 خطوة إلى عدد قليل جداً، مما ساعد على الحد من فرص تعاطي الرشاوى، مقابل رفع عائدات الميزانية العامة من إجراءات التسجيل هذه. ثالثاً: تبين لنا من التجربة العملية هناك أن المشروعات التنموية التي يقودها الأهالي المحليون هي الأجدى والأكثر فعالية. وبين هذه يساهم "برنامج التضامن الوطني" الذي شارك البنك الدولي في إطلاقه عام 2003، في تمكين ما يزيد على 22 ألفاً من أعضاء مجالس القرى المحلية، الذين انتخبهم الأهالي بهدف الإشراف على تنفيذ الأولويات التنموية المحلية التي تتراوح بين بناء مدرسة في قرية ما، ومشروعات الري الزراعي وتوفير الطاقة الكهربائية مثلا. وحتى الآن وصلت فوائد هذا البرنامج لما يزيد على 19 مليون مواطن أفغاني في 34 محافظة من محافظات البلاد، وتصل فيها المنح المالية المقدمة إلى متوسط قدره 33 ألف دولار. كما علمتنا التجربة أنه يمكن لمشروعات التنمية المملوكة للأهالي المحليين البقاء والاستمرار رغم النزاعات. والدليل دفاع الأهالي أنفسهم عن مدرسة تابعة للبرنامج كانت قد أنشئت في إحدى القرى عندما هاجمها المتمردون في أغسطس من عام 2006. كما تساهم مجالس القرى المحلية في توثيق التعاون بين القرويين والحكومة. رابعاً: في حين تحتفظ التنمية المحلية بأهميتها الكبيرة، فهذا لا يعفي الحكومة من مسؤوليتها ورفع قدرتها على قيادة التنمية على المستوى الوطني العام. وفي الوقت الحالي يتم تمرير ثلثي المساعدات الإنسانية والتنموية المخصصة لأفغانستان بعيداً عن سيطرة الحكومة المركزية، بسبب ضعف ثقة المانحين في أهليتها وشفافيتها. غير أن هذا السلوك يساعد كثيراً على تقويض جهود الوطنيين العازمين على بناء مؤسسات أفغانية شرعية، إلى جانب تأثيره السلبي على تخصيص الموارد التنموية. وبالنتيجة فقد جفت منابع الموارد المطلوبة لتنمية بعض المناطق الآمنة والمستقرة في أفغانستان. ولا يزال في وسعنا التعاون مع الأفغان على تعزيز إدارة مؤسساتهم المالية. لكن لن يتحقق هذا الهدف دون إقامة شراكات يعول عليها مع الوزراء الأفغان النزيهين العازمين على الإصلاح، إذا ما أخذنا في الاعتبار ضعف المؤسسات الوطنية وانتشار ممارسات الفساد الحكومي هناك. ويتعين على الحكومة القادمة أن تضم عدداً من هؤلاء. خامساً: يريد الأفغان رؤية تقدم ملموس في مستوى حياتهم اليومية حتى يكون لهم أدنى شعور بالولاء لحكومة كابول أو حكوماتهم المحلية. وهنا أيضاً أحرز بعض التقدم الذي يمكن قياسه والتحقق منه: فقد اكتمل العمل في تعبيد ما يزيد على 12 ألف ميل من الطرق البرية في الريف، ما أسهم كثيراً في ربط الأهالي والقرويين بالأسواق. وبالمثل توفرت خدمات الرعاية الصحية الأساسية اليوم لنحو 80 في المئة من المواطنين. وبالمقارنة مع تسجيل نسبة 9 في المئة فحسب من الأطفال الأفغان في المدارس عام 2003، جرى تسجيل 6 ملايين طفل، تقارب نسبة البنات بينهم 35 في المئة، بينما لم يكن عدد الأطفال المسجلين في المدارس يزيد عن مليون طفل، لا توجد بينهم بنت واحدة قبل سبع سنوات. وفي قطاع الاتصالات، تتنافس الشبكات المتوفرة على خدمة 10 ملايين مشترك، مع العلم أن هناك الكثير الذي يجب بذله في تطوير هذا المجال وتوسيع خدماته. لا ريب أن الاستقرار في أفغانستان يعتمد على نوعية القيادة، خاصة في المجالات الحيوية التي تخلفت عن ركب التقدم: الزراعة، الطاقة، التعدين وتطوير القطاع الخاص. والتحدي الذي يواجهنا هناك هو توفير الأمن اللازم للتنمية كي تكون مستدامة وقادرة على البقاء، وهو تحد كبير دون شك. غير أنه بالإمكان تحقيق تقدم أيضاً، فيما لو توفرت للأفغان حكومة مركزية؛ شرعية وقوية وفاعلة. روبرت زوليك رئيس مجموعة البنك الدولي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"