تكاثفت مؤخراً هجمة من التصريحات والادعاءات في وسائل إعلام معينة، مؤداها أن أفراداً، قيل إنهم من سكان غزة وجنوب لبنان تعرضوا لـ"الإبعاد" من دولة الإمارات العربية المتحدة. وقد ترددت هذه الادعاءات في وسائل إعلام حزبية ومذهبية بكيفية ربما حالت غوغائيتها وتناقضاتها دون جلاء حقيقة ما جرى، أمام قطاعات واسعة من الرأي العام. وأولى الحقائق التي ينبغي جلاؤها، ووضع النقاط على الحروف بشأنها، في هذا المقام، هي أن الإمارات العربية المتحدة دولة ذات سيادة. ومن حق الدول ذات السيادة أن تتخذ من الإجراءات، على أراضيها، ما تراه مناسباً لمصالحها، دون قيد أو شرط، أو حاجة إلى تبرير أو تسويغ. هذا هو منطق الشرعية المتعارف عليه وفقاً لأبجديات القانون الدولي. وتحديداً في حالة هؤلاء الأشخاص، المزعوم ترحيلهم، الذين لا أظنهم يجادلون في أنهم دخلوا الدولة أصلاً بتأشيرة وفقاً للإجراءات المتبعة، ومن حق الدولة أيضاً أن تتصرف إزاءهم بما تراه مناسباً من قوانين نافذة في سوق العمل بها، وخاصة أنهم لم يلحق بهم أي ضرر، من أي نوع، سواء بحقوقهم أو ممتلكاتهم، والإمارات، كما يعلم القاصي والداني، دولة قانون وعدل، والقضاء فيها مستقل، ولو صح أن أي شخص من هؤلاء، أو من غيرهم، تعرض لمعاملة غير قانونية، فأبواب المحاكم في الدولة مفتوحة، ومنافذ التقاضي العادل والمنصف مُشرعة، بما لا حاجة معه لتجييش الرأي العام، أو التلفع بادعاءات واهية تدور حول نفسها، ضمن جوقة دعايات مغرضة، ولا أساس لها من الصحة. طبعاً لن يسلك هؤلاء مثل هذا المسلك المشروع، لأن ادعاءاتهم أضعف من أن تقف على قدمين أمام قضاء نزيه وعادل. ولغة الأرقام الموثقة هنا تدحض الافتراءات الملفقة. ففي الوقت الذي يزعم فيه المرجفون اليوم أن 300 شخصاً من غزة، و 45 فرداً من لبنان، رُحّلوا، لا زالت الإمارات تستقبل عشرات الآلاف من الوافدين من غزة ومن لبنان ومن كل أنحاء العالم دون تمييز بين لون أو جنس أو دين أو مذهب. ولعل نظرة واحدة إلى الشارع الإماراتي تقدم الدليل الكافي على حقيقة تسامح الإمارات وإنسانيتها الراقية. وحتى إذا صح أن بضعة أفراد من جنسية معينة، أو من منطقة أو مذهب معينين، قد رحِّلوا أو رحَلوا بالفعل لأسباب تتعلق بتقادم كفاءاتهم المهنية وعدم قدرتهم على مواكبة التطور الكبير الحاصل في الإمارات الآن، أو ربما كأثر جانبي لتداعيات الأزمة المالية العالمية على بعض شركات القطاع الخاص، أو بكل بساطة، لأسباب ذات صلة بانخفاض أو ارتفاع دخل هؤلاء الأفراد، فإن أضعاف هذه الأعداد، سواء من سكان غزة أو من أفراد الطائفة الشيعية في لبنان، قد دخلوا أيضاً الدولة هذا العام، واستكملوا إجراءات إقامتهم وباشروا أعمالهم في أفضل الشروط والظروف، ودون أدنى منغصات أو تعقيدات، ما يعني، استطراداً، عدم وجود أي موقف مسبق من أي كان، على هذه الأرض الكريمة المعطاء. إن دولة الإمارات لم تقف يوماً ضد أتباع أي مذهب أو عرق أو جنس أو لون، وهذه هي الحقيقة التي تسندها الأفعال والأقوال، وتؤكدها الأرقام والمواقف والسياسات. ولا حاجة للتذكير طبعاً بأن الإمارات ظلت دائماً في طليعة الدول الملتزمة بالدفاع عن جميع القضايا العربية، ودفعت في دعمها الغالي والنفيس، وفي مقدمة ذلك القضية الفلسطينية، والقضية اللبنانية. ولعل المساعدات الأخيرة الموجهة إلى غزة تخرس جميع من يتنطعون ويزايدون الآن ويذرون الأكاذيب والسفاهات في الهواء، هناك ضمن شراذم الضالعين في حملة الاستهداف الرخيصة تلك. وذات الشيء يصدق على لبنان، حيث إن معظم مشروعات نزع الألغام وإعادة الإعمار والبنية التحتية والمساعدات الإماراتية المختلفة من مدارس ومستشفيات، كان المستفيد الأول منها هم سكان جنوب لبنان، المصنفون تقليدياً في خانة الطائفة الشيعية! ومع كثافة غيوم الغموض واللامنطق، فإن سعار دعاية هذه الحملة السخيفة الآن، وفي هذا التوقيت بالذات، يمكن فهمه بسهولة إذا وضع في سياقه السياسي الموبوء. فمن المتعارف عليه أن حالات الانسداد والاحتقان والتناحر السياسي الداخلي الحاد تؤدي، في كثير من الأحيان، إلى مساعٍ لتصدير أزماتها إلى الخارج، وفق استراتيجية هروب غير مسؤولة إلى الأمام. وهذا تحديداً هو ما حدث ويحدث في الحالتين، حيث إن الفاشلين والمتطرفين والمتعصبين، الذين يرموننا بدائهم الآن وينسلون، يبحثون عن أي مشجب خارجي لتحميله طرفاً من حصاد ارتهانهم وسفههم وعمالتهم لقوى إقليمية ذات مشاريع هينمة على المنطقة بدل مواجهة الحقائق كما هي، وتحمل مسؤوليات تصرفاتهم. وثمة سبب آخر ذو صلة بعمى الإيديولوجيا، وضيق أفق سياسات التنطع والتطرف، التي يتصايح بعضها الآن في سياق أجندات غريبة ومسعورة ولا طائل من ورائها. فبعض الجماعات الإيديولوجية المتطرفة تنطلق من خلفية فوضوية ظلامية أو طائفية تعتقد أن من حقها التدخل في شؤون جميع الدول العربية والإسلامية، وكأن خيارات هذه الدول وسياساتها، مجال مفتوح ومستباح بحيث تملي عليه شروطها أو تصدر إليه أفكارها. وهذا خطأ، بل خطيئة، لأن مصلحة الدولة الوطنية، ينبغي أن تكون فوق كل اعتبار. والإمارات العربية المتحدة دولة قانون ومؤسسات، ومصلحتها الوطنية ينبغي أن تكون فوق كل اعتبار، شاء من شاء وأبى من أبى. وهذه هي الحقيقة، كل الحقيقة، التي لا تغطيها سفاهات القال والقيل، ودعايات "التسفير" و"الترحيل"!