أعلن رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد اعتزامه التنحي عن السلطة في نهاية شهر أكتوبر الجاري· وقبل إعلانه الأخير الذي نشرته صحيفة نيوز ستريتس تايمز الماليزية يوم الأحد الماضي، كان مهاتير قد أعرب مرارا عن نيته التقاعد من مناصبه الرسمية والحزبية· ففي ديسمبر 1999 إثر فوز حزبه في الانتخابات العامة، والتي منحته فرصة ولاية أخرى في رئاسة الوزارة، أعلن أن هذه هي ولايتي الأخيرة · وفي يونيو 2002 أعلن استقالته فجأة من منصب رئيس الوزراء ورئيس حزب المنظمة القومية الملاوية المتحدة (أمنو) الحاكم، خلال المؤتمر السنوي للحزب، وذلك قبل أن يقنعه قادة حزبه بالعدول عن الاستقالة·
أما الآن فلأول مرة يحدد مهاتير موعدا نهائيا للاستقالة من مسؤولياته في الدولة والحزب معا، فكيف يبدو الرجل اليوم بعد 22 عاما قضاها في السلطة؟
يعتقد الماليزيون هذه المرة أن الدكتور مهاتير محمد جاد في إعلان استقالته الأخير، لأنه يريد أن يخرج من الحياة العامة بعد النجاح الذي حققه للاقتصاد الماليزي وإثر فوز حزبه في الانتخابات الأخيرة· أما مهاتير فيقول إن ما منعه من الاستقالة سابقا هو الأزمة التي عصفت بالاقتصادات الآسيوية في عام ·1997
وتعد سياسات وأفكار الدكتور مهاتير محمد الأساس المتين في بناء ماليزيا الحديثة، وفي تحولها من مجرد دولة صغيرة وفقيرة، إلى واحدة من النمور الاقتصادية في جنوب شرق آسيا· فخلال فترة حكمه تجاوز متوسط دخل الفرد فيها 4700 دولار سنويا، ووصل الفائض في ميزانها التجاري 142 مليار دولار، وأصبحت السلع الصناعية تشكل 80 في المئة من إجمالي صادراتها· أما خسائرها في أزمة 1997 والبالغة 250 مليار دولار، فسرعان ما اجتازتها لتقف بقوة على قدميها ·
ولعل أحد جوانب الغموض والتناقض في معجزة مهاتير ، هو كونها دفعت بماليزيا نحو حلبة المنافسة الاقتصادية وجعلت منها أحد المراكز الجاذبة للاستثمارات الأجنبية، وفي الوقت ذاته لم تلجأ إلى سياسات انفتاح واسع، بل أبقت على سياسة الحماية ضد رؤوس الأموال الأجنبية، ثم شددت القيود عليها حين لجأت إلى إجراءات جديدة في عام ،1998 وقال مهاتير: لا نريد أن نكرر ما حدث في المكسيك أو الأرجنتين · أما في سجل المشاركة السياسية والديمقراطية والحريات العامة، فهناك انتقادات شديدة ضد رئيس الوزراء الماليزي الذي استأثر بالسلطة على مدى أكثر من عقدين، وفرض رقابة على الإعلام، واحتفظ بأحكام الطوارئ ونكل بمعارضيه السياسيين·
وعلى رغم تحذيراته من تفشي التشدد الإسلامي في جنوبي شرق آسيا، فان ذلك لم يخفف من حدة المنافسة التي يخوضها الحزب الإسلامي الماليزي ضد حكمه· وقد دفع تطبيق الشريعة الإسلامية في ولاية كيلانتان، وهي إحدى ولايتين يحكمهما الحزب الإسلامي ، ابنة مهاتير مارين إلى أن تكتب مقالا في إحدى الصحف المحلية، حذرت فيه من إمكانية صعود طالبان في ماليزيا ، وطالبت بالحيلولة دون وصول الإسلاميين إلى الحكم في ولايات أخرى· ويوجه مهاتير نقدا حادا ضد النظرة الغربية المعادية للإسلام ويهاجم العولمة بشدة· ويعتبر أن الاستعمار الغربي مسؤول مسؤولية مباشرة عن البؤس والفقر والتخلف الذي عانته ماليزيا وغيرها من بلدان العالم الإسلامي ، وأن الغرب الذي يتبع سياسة هيمنة على غيره··· لم يكن نظيفا في تعاطيه معنا أو مع آسيا عامة · أما العولمة فان كوارثها تحتم على الدول الآسيوية التعاون من أجل حماية نفسها منها ·
وخلال مرحلة الاستعمار البريطاني لماليزيا، شاهد مهاتير عندما كان شابا، المآسي والإفقار والمعاناة التي حدثت حينئذ، خاصة في إقليم كيدا الذي يقطنه الملايو، وهم أغلبية مسلمة مارس بحقها البريطانيون سياسة تمييز لصالح الصينيين والهنود الذين جاءوا كموظفين في الإدارة الاستعمارية، لكن بريطانيا منحتهم الجنسية الماليزية، فأصبح الصينيون يسيطرون على الأنشطة التجارية والمالية والصناعية، ويهيمن الهنود على الوظائف الحكومية العليا· وقد ولد مهاتير في اكورستيا عاصمة إقليم كيدا في عام ،1925 وفيها تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي، ثم التحق بكلية الطب في سنغافورة التي كانت حينئذ مقاطعة تابعة لماليزيا قبل أن تنال استقلالها عام ·1965 وبدأ مهاتير نشاطه السياسي مع انضمامه إلى المنظمة الوطنية المتحدة التي تأسست عام 1946 لتسعى نحو نيل الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، ثم التحق بسلك الجيش، قبل أن يعود مرة أخرى إلى مهنة الطب والى ممارسة نشاطه السياسي في أوساط الملايو· وبعد 7 سنوات على رحيل البريطانيين، تم انتخاب مهاتير عضوا في البرلمان عام ،1964 ثم عين في عام 1968 رئيسا لمجلس التعليم العالي، لكنه طرد في العام التالي من الحزب عقب توجيهه اتهامات إلى رئيس الوزراء تنكو عبدالرحمن بعدم إنصاف قومية الملايو· وإثر ذلك انخرط مهاتير في الحياة الأكاديمية طوال ست سنوات وأصدر أول كتبه وهو المعضلة الماليزية ، إلى أن تولى حسين عون منصب رئيس الوزراء في عام 1974 فأصبح مهاتير وزيرا للتعليم ليبدأ رحلة الصعود نحو زعامة ماليزيا في عام