كانت نظريات الاستهلاك وأشهرها "نظرية المنفعة" و"نظرية منحنيات السواء" تنطلق في تفسيرها للسلوك الاستهلاكي للإنسان من فرضيات مسلم بها جدلاً، وقد أثبتت الدراسات العلمية الحديثة بالأدلة القطعية عدم دقة تلك الفرضيات، وبالتالي نهجت الدراسات التطبيقية الحديثة منهجية علمية تخرج عن الإطار المألوف لتلك النظريات، ورغم ذلك ظلت تلك النظريات تشكل قاعدةً أساسيةً لدراسة السلوك الاستهلاكي للإنسان. وأهم تلك الفرضيات هي :
(1) وحدة الطبيعة الآدمية في السلوك الاستهلاكي. فقد أثبتت التجارب عدم دقة هذه الفرضية، فإذا سلمنا بصحة هذه الفرضية في العلوم الصحية والطبية من حيث وحدة البنية والتكوين المادي لجسد الإنسان، إلا أن التسليم المطلق والمجرد بصحة بهذه الفرضية في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية والنفسية قد لا يكون دقيقاً، حيث يلعب التكوين الاجتماعي والقيمي للإنسان والنظام الاجتماعي الذي يعيش فيه دوراً كبيراً في توجيه سلوكه الاستهلاكي. وكذلك حال العوامل النفسية والسياسية والثقافية والتربوية والدينية، فكلها تلعب أدواراً مؤثرةً للغاية في السلوك الاستهلاكي للإنسان. بل إن أدوارها قد تتغلب في أغلب الأحايين على الأدوار الاقتصادية ذاتها.
(2) الرشد الاقتصادي أو العقلانية هو صفة يتصف بها كافة المستهلكين. ويعرفه الاقتصاديون بقولهم "الرشد الاقتصادي في نظرية الاستهلاك: هو سعي المستهلك للحصول على أقصى إشباع أو منفعة ممكنة من استهلاكه للسلعة أو الخدمة بأقل تكلفة ممكنة ". وتفسير المنفعة هنا يعني الإشباع البيولوجي والمعنوي وليس المنفعة بالمعنى القيمي للمنفعة. فالمستهلك الذي يشتري التبغ ويدخنه أو يشتري الخمر ويشربها أو يشتري المخدرات ويستهلكها أو يشتري أشرطة أغان معينة ويستمتع بها أو ينفق للاستمتاع الجنسي غير المشروع هو مستهلك رشيد - من وجهة نظر النظرية الاقتصادية - إذا كان يرى بأن ذلك يحقق له أقصى درجات الإشباع بأقل التكاليف، حتى وإن كان هذا المستهلك لا يجد دخلاً يكفيه لشراء ملابس محترمة، أو استئجار منزل يؤويه، أو شراء دراجة هوائية يستخدمها كوسيلة مواصلات. وقد أثبتت التجارب عدم دقة هذه الفرضية أيضاً، من حيث معنى الإشباع ذاته ومن حيث تعميم ذلك لكل البشر.
(3) كافة المستهلكين على علم يقيني وشفاف بكافة أسعار السلع والخدمات المتوفرة في الأسواق، ودرجة جودتها ومن ثم درجة إشباعها. وأنهم يحصلون على معلوماتهم تلك بدون تكلفة. وأنهم يتفاعلون ويتجاوبون مع تلك المعلومات. وهذه فرضية غير دقيقة أيضاً. فليس كل المستهلكين على علم يقيني شفاف بالأسواق، ولا المعلومات مجانية.
(4) المستهلك ينفق دخله كله في الاستهلاك، وإن الادخار ما هو إلا استهلاك مستقبلي، ينظر إليه الإنسان في إطار الرشد الاقتصادي. وبناءً على هذه الفرضية يتم أيضاً تبرير أسعار الفوائد المصرفية على أنه ثمن التضحية بالاستهلاك الحاضر من أجل الاستهلاك المستقبلي، وهو تبرير ما زال يلقى قبولاً من كثير من الاقتصاديين.
(5) لقد رأت "نظرية المنفعة" أن المنفعة -أي الإشباع- الذي يحصل عليه الإنسان من استهلاكه للسلعة أو الخدمة قابل للقياس الرقمي المطلق المجرد في ذات السلعة الواحدة، في حين رأت نظرية منحنيات السواء أن قياس المنفعة يظل قياساً نسبياً مقارناً وليس مطلقاً مجرداً. وافترضت نظرية منحنيات السواء بالتالي وجود خريطة السواء لكل مستهلك، والتي توضح المنفعة النسبية التي يحصل عليها المستهلك عندما يقبل على المفاضلة بين السلع والخدمات الاستهلاكية المتنوعة. ومنها توصل الاقتصاديون إلى معرفة "فائض المستهلك"، وهو الفرق بين الثمن الذي يدفعه المستهلك بالفعل نظير حصوله على السلعة أو الخدمة من ناحية، وبين الثمن الذي يكون هو مستعدا لدفعه من ناحية أخرى. أي أن فائض المستهلك قد يكون موجباً وقد يكون سالباً. وقد تكون "نظرية منحنيات السواء" أكثر دقة من نظرية المنفعة في عملية قياس المنفعة إلا أن تباين أنماط الاستهلاك واختلافها باختلاف الزمان والمكان، وعدم دقة الفرضيات الأخرى التي لم تلغها نظرية منحنيات السواء قد تشط بها كثيراً عن تفسير السلوك الاستهلاكي لبني البشر. ومهما وضعنا من نظريات علمية لتفسير السلوك الاستهلاكي فسوف نبقى أمام حقيقة علمية واحدة وهي أن العلوم الاجتماعية والإنسانية - من وجهة نظري - خاليةً من الدوال الخطية، حيث تبقى هناك عوامل تدخل في تفسير السلوك الإنساني لا يمكن قياسها رقمياً بدقة ولا يمكن التنبؤ بها بدقة، وهذه من حكم الله سبحانه وتعالى في هذا الكون.
(6) كافة العوامل غير الاقتصادية من الممكن النظر إليها في إطار عامل واحد وهو الذوق. فعامل الذوق يدخل كمتغير اقتصادي في دالة الاستهلاك. بيد أن الاقتصاديين لا يضعون تعريفاً محدداً للذوق. وهذه في الحقيقة فرضية ينقصها الوضوح والدقة. حتى وإن سلمنا بأن الذوق عامل نفسي وتركنا لعلم النفس تفسير معنى الذوق إلا أننا سوف يصعب علينا قياس الذوق قياساً رقمياً دقيقاً. كما أننا لن نستط