"أحاديث الفتن" كثيرة متنوعة، منها ما هو في كتب الحديث "التسعة"، ومنها ما تزخر به مؤلفات خاصة، حاول مؤلفوها استقصاء ما رُوي عن الفتنة من أحاديث، وكثير منها يطرح مسألة الصحة! وإذا نحن أخذنا بعين الاعتبار أن المختصين في نقد الحديث كان اهتمامهم بنقد السند بالتعديل والتجريح، أكثر من أي شيء آخر، وعلمنا أنهم كانوا يتساهلون مع أحاديث "الترغيب والترهيب" لأنها لا تترتب عنها أحكام فقهية كما هو الشأن في الأحوال الشخصية والمعاملات.. الخ، أدركنا أن باب أحاديث الفتن هو باب مفتوح أمام الزيادة والنقصان فضلا عن السهو والنسيان، دع عنك "الوضع" بدافع من الدوافع، خاصة السياسية منها. وبما أن التحذير من الفتنة قد ورد في القرآن خصوصا قوله تعالى "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً" (الأنفال 25) (بمعنى أنها لا تصيب الذين ظلموا وحدهم، بل تعم الجميع لأن الفتنة إذا نشبت انتشرت كالنار في الهشيم)، أقول بما أن الأمر كذلك، فيمكن اعتبار الأحاديث التي في معنى تلك الآية أحاديث صحيحة. ذلك أن أحداثاً قد جرت زمن النبي عليه الصلاة والسلام كانت مشبوهة، بل منها ما كان وجه الفتنة فيه واضحاً، مثل ما حدث مرات في موضوع الغنائم... وبالتالي لا يستبعد أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد قال فيها أحاديث تشجبها وتفضحها وتحذر المسلمين من السقوط في شركها سواء في الحال أو الاستقبال. ومن هنا كانت أحاديث "الفتن" تخاطب الناس في جميع عصور الفتنة، بمعنى أن الناس يقرؤون فيها ما يحدث في زمانهم. أحاديث الفتن إذن كثيرة متنوعة، يمكن تصنيفها أنواعاً من التصنيف، نقترح منها الأصناف الثلاثة التالية: 1- أحاديث تنبه إلى الفتن وتشجبها: منها حديث يقول فيه النبي عليه الصلاة والسلام: "إِنـي أَرى الفِتَنَ خِلالَ بُـيوتكم". وقد فسروا هذا الحديث على أنه "إشارة إلى القتل والـحروب والاختلاف الذي يكون بـين فِرَق المسلمين إِذا تَحَزَّبوا". وأيضاً: "قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: سِبابُ المسلم فُسوقٌ وقِتالُهُ كفرٌ". وفي نفس المعنى روي: «عن أبي هريرةَ عنِ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: يتقارَبُ الزمان، ويَنقص العمل، ويُلقى الشُّحُ، وتَظهر الفتنُ ويكثر الهرج، قالوا: يا رسول الله، أيما هو؟ قال: القتلُ القتل". وأيضاً: "قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: إنَّ بينَ يدَي (قيام) الساعةِ لأياماً يَنزل فيها الجهلُ، ويُرفعُ فيها العلم، ويكثُر فيها الهرجُ. والهرجُ القتل". و"عن ابن عُمرَ أنه سمعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يقول: لا ترجِعوا بعدي كفّاراً يَضربُ بعضُكم رِقابَ بعض". وأيضاً: "أَنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلّم خَطَبَ الناسَ فقال: ألا تَدرونَ أيُّ يوم هذا؟ قالوا: اللَّهُ ورسولُهُ أعلم، فقال: أليسَ بيوم النَّحر؟ قلنا: بَلى يا رسولَ اللَّه، قال: أيُّ بلدٍ هذا؟ أليس بالبلد الحرامِ؟ قلنا: بَلى يا رسولَ اللَّه، قال: فإِنَّ دِماءَكم وأموالكم وأعراضكم وأبشارَكم عليكم حَرام كحرْمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بَلدِكم هذا. ألا هل بَلغتُ؟ قلنا: نعم. قال: اللهمَّ اشهد، فلْيُبلغِ الشاهدُ الغائبَ، فإنه رُبَّ مبلِغٍ يبلِّغهُ من هو أوعى له". و "عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلّم: ستكونُ فِتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ منَ الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، مَن تَشَرَّفَ لها تَستشرِفْه، فَمن وَجَدَ منها ملجأً أو معاذاً فلْيَعُذ به". وأخيراً وليس آخراً: "قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلّم: إذا تَواجَهَ المسلمان بسيفَيهما فكلاهما من أهل النار. قيل: فهذا القاتل، فما بالُ المقتول؟ قال: إنه أرادَ قتلَ صاحبه". واضح أن رواية مثل هذه الأحاديث وبالتالي الترويج لها لم يكن من أجل أنها صادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل لأنها تستجيب لحاجة في حاضر راويها أو مروجها، وهي في الغالب حاجة تستدعيها فتن قائمة فعلا أو محتملة، والغالب أن الغرض منها هو صد الناس عن إشعالها أو المشاركة فيها... الخ. وهذه حالنا نحن اليوم: فالعالم العربي والإسلامي يعاني من حال الفتنة -وأكاد أقول "الدائمة- "حال الاقتتال الجماعي" الذي تستباح فيه نفوس الأولاد والنساء والشيوخ وغيرهم ممن لا يقوى على القتال، عندما يكون القتال مشروعاً أي دفاعاً عن النفس، فكيف بالقتل غير المشروع ابتداء: القتل الذي يتحول إلى اقتتال، إلى فتنة "وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ" (البقرة 191). 2- هناك صنف آخر من أحاديث الفتن يتوجه بالخطاب إلى الذين "يثورون" على الحكام ويتمردون على الدولة بدعوى الإصلاح، دون أن يأخذوا في حسبانهم ما سيترتب على عملهم من مساوئ ومصائب، لكونهم لا يمتلكون القوة التي تمكنهم من تحقيق ما يدعونه من إصلاح بأقل ثمن، فتنقلب "ثورتهم" أو "خروجهم" على الحاكم إلى حال الفتنة، حال اللادولة، حال "قانون الغاب". من ذلك ما روي من أن أحد الصحابة سأل النبي قائلا: "يا رسول الله، إنا كنَّا في جاهليةٍ وشرٍّ؛ فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعدَ هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلتُ: وهل بعد ذلك الشرِّ من خير؟ قال: نعم وفيه دَخَن. قلتُ: وما دَخَنُه؟ قال: قومٌ يَهدونَ بغير هَدْيي، تَعرفُ منهم وتُنكر، قلتُ: فهل بعدَ ذلك الخير من شرّ؟ قال: نعم، دُعاةٌ على أبوابِ جهنمَ، مَن أجابهم إليها قَذَفوهُ فيها. قلتُ: يا رسول الله، صِفهم لنا، قال: هم من جِلدَتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلتُ: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تَلزمُ جماعة المسلمين وإِمامَهم، قلتُ: فإن لم يكن لهم جماعةٌ ولا إمامٌ؟ قال: فاعتزلْ تلكَ الفرَقَ كلَّها، ولو أن تَعضَّ بأصلِ شجرة حتى يُدركَكَ الموتُ وأنتَ على ذلك". ومن ذلك أيضاً: ما روي عن أحدهم، قال: «أتينا أنسَ بن مالك فشكَونا إليه ما يلْقونَ منَ الحَجَّاج، فقال: اصبِروا، فإِنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشرُّ منه حتى تَلقوا ربكم؛ سمعته -يقول أنس- من نبيكم صلى الله عليه وسلّم». وفي هذا المعنى رووا «عنِ ابن عباسٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم قال: من كرهَ من أميره شيئاً فلْيصبر، فإِنه من خَرَجَ من السلطانِ شِبراً ماتَ مِيتةً جاهليةً». مثل هذه الأحاديث واضح من أمرها أنها تنبه الناس إلى خطورة وأضرار "حال اللادولة" وتدعو إلى اعتزال "أمراء الحرب" الذين هم الوحيدون الذين يستفيدون منها، لا بالبناء بل بالهدم والتدمير. إن الدعوة إلى طاعة "الأمير القائم الظالم"، ليس لأنه "قائم" باستبداده وشوكته، بل لأنه يتعذر في وقت من الأوقات -إن لم يكن في جلها- إقامة حاكم جديد بدله، يحكم بالعدل.. الخ. فتكون النتيجة استفحال الفتنة! إن طاعة "القائم الظالم" الذي يقيم الحد الأدنى الضروري من "الأمن" أفضل من "حال الفتنة"، حال اللادولة". إن هذه الطاعة تدخل في باب: "الضرورات تبيح المحظورات". 3- هناك جملة من الأحاديث تنسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام أقوالا فيها تشاؤم كبير من مستقبل أمته: منها قوله: «سألت ربي ثلاث خصال فأعطاني منهن ثِنتين ومنعني الثالثة: سألته أن لا يهلكنا بما يهلك الأمم قبلنا، فأعطانيها، وسألته ألا يظهر علينا عدواً، فأعطانيها، وسألته ألا يلقي بيننا سيفاً، فمنعنيها». ومن ذلك ما روي من أن رجلا: أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: استعملتَ فلاناً (عينته عاملا لك) وما استعملتَني، فقال: إنكم «ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» (في الجنة). ومن هذا الصنف من الأحاديث: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيم قتَل، ولا المقتول فيم قُتل، فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: الهرج، القاتل والمقتول في النار. ومن هذا الصنف أيضاً: "قال رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم: «سيأتي على الناس زمان يقعدون في المساجد حلقاً حلقاً، إنما همتهم الدنيا، فلا تجالسوهم، فإنه ليس للـه فيهم حاجة». وعن حذيفة بن اليمان أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون فتن كقطع الليل المظلم، يتبع بعضها بعضاً، تأتيكم مشتبهة كوجوه البقر، لا تدرون أيها من أي». وهذا النوع من الأحاديث يصعب تفهمه لأنه لا يشهد له القرآن بالصحة بل يقرر عكس ما بشر به أمة المسلمين فيتوعد المسلمين، وليس في القرآن وعيد للمسلمين وإنما وعيده للكافرين والمنافقين.