ما الذي يحدث في إيران؟ في السطح تبدو الحياة وكأنها قد عادت إلى طبيعتها، نتيجة لتراجع عدد المظاهرات الاحتجاجية وسرعة تفريق قوات الأمن لما ينظم منها. ولكن تحت سطح هذا الهدوء الظاهري، يجري نشاط محموم، وتتشكل ملامح معارضة سياسية قوية للنظام الحاكم. ففي الأسبوع الماضي، أفصح مير حسين موسوي، المرشح الرئاسي الذي أعلنت خسارته الرسمية لنتائج الانتخابات الأخيرة، عن عزمه تشكيل حركة اجتماعية واسعة لمعارضة النظام الحالي، والضغط باتجاه المزيد من الانفتاح السياسي. ومن جهة أخرى، دعا الرئيس الإصلاحي السابق محمد خاتمي، إلى إجراء استفتاء عام حول شرعية الحكومة المنتخبة. وتنضم إلى هذين، شخصية إيرانية ثالثة قوية هي الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني، الذي انتقد علناً النظام الحاكم على إدارته للعملية الانتخابية، وكذلك بسبب تعامله مع الأزمة السياسية التي أعقبت الانتخابات. وطالب ثلاثتهم بإطلاق سراح السياسيين والصحفيين الذين اعتقلتهم سلطات الأمن في شهر يونيو الماضي دون تقديم اتهامات محددة إليهم. وتشمل قائمة المعتقلين "مازيار بهاري" -مراسل مجلة "نيوزويك" في طهران، وهو مواطن كندي من أصل إيراني، فضلاً عن كونه مخرجاً سينمائياً للأفلام التوثيقية ذا شهرة عالمية. كما يجب القول إن الشخصيات السياسية المعارضة المذكورة، ليست ممن يمكن الاستهانة بها، حيث كانت ثلاثتها في مركز سلطة الجمهورية الإسلامية الإيرانية خلال الجزء الغالب من تاريخها. والأكثر إثارة للدهشة والاهتمام ثورة رجال الدين على "نجاد"، خاصة أن عدد آيات الله العظمى الإيرانيين يعد بأصابع اليد، مع العلم أن هذا المنصب يعد الأرفع في نظام التراتب الديني الشيعي. فلم يؤيد الرئيس نجاد علناً سوى قلة منهم، بينما أفاد موقع "مكتب طهران" الإلكتروني انتقاد ستة منهم للنظام الحاكم علناً. بل أصدر أحدهم في الأسبوع الماضي فتوى دينية دعا فيها إلى شرعية مقاطعة مراسم تنصيب نجاد للرئاسة. وفي الوقت نفسه، شملت الفتوى انتقاداً مباشراً لآية الله على خامنئي، القائد الأعلى للثورة الإسلامية. وتُظهر مواقف رجال الدين هذه تحولاً للسلطة في إيران من المؤسسة الدينية نحو المؤسسة العسكرية. ويمثل "نجاد" نفسه هذا التحول بحكم كونه أحد قدامى مقاتلي الحرب الإيرانية -العراقية، وبحكم الصلات القوية التي تربط بينه وقوات الحرس الثوري، التي هي بمثابة جيش موازٍ كان قد أنشأه آية الله الخميني بسبب عدم ثقته في ضباط جيش نظام الشاه السابق. يذكر أن نجاد قد وجّه -خلال توليه للمنصب الرئاسي- بتحويل الأموال والأرصدة المخصصة للمؤسسة الدينية، إلى تمويل الجيش وقوات الحرس الثوري. وقد ساعد آية الله خامنئي في التخفيف من وطأة هذا التحول الذي حدث في السلطة -من المؤسسة الدينية إلى المؤسسة العسكرية- مستفيداً من دوره المزدوج في كلتا المؤسستين. فهو شخصية دينية في الأساس، إلا أنه كان دائماً شديد القرب من قوات الحرس الثوري التي منحته دعمها. وعلى نقيضه، يصعب جداً القول بانتماء "نجاد" إلى المؤسسة الدينية. بل تجرأ نجاد في بادئ الأمر على تحدي آية الله خامنئي -سنده الرئيسي في الأزمة التي يواجهها حالياً- وذلك برفضه سحب اختياره لنائبه الرئاسي السابق، على رغم اعتراضات خامنئي عليه! وفي حين يصعب التكهن بما يعكسه النزاع الذي جرى بين خامنئي ونجاد، إلا أن ما حدث يعد مؤشراً واضحاً على تزايد الانقسامات داخل النخبة الإيرانية الحاكمة. وبالمقارنة، فقد فاتت على واشنطن وتل أبيب، اللتين تهولان من خطر الملالي الإيرانيين المسلحين نووياً، حقيقة ما يجري الآن في طهران، إذ لم يعد الملالي على ما كانوا عليه من خطر ورهبة، وليس لهم اليوم النفوذ ذاته الذي كانوا يتمتعون به على المؤسسة السياسية الحاكمة. وعليه، فإنه يمكن للمرء أن يعتقد بخسارة الثورة الإسلامية الإيرانية لهويتها الدينية المميزة لها دون غيرها من دول المنطقة، لتتحول إلى أي ديكتاتورية أخرى مثل غيرها من ديكتاتوريات الشرق الأوسط. والاستثناء الوحيد هنا أن في إيران معارضة سياسية لا تبدو مستعدة في الوقت الحالي لالتزام الصمت والهدوء، كما يطالبها النظام. والسؤال الآن: ما الذي تعنيه هذه الاضطرابات بالنسبة لواشنطن وبقية دول العالم التي تتعامل مع الملف الإيراني؟ من المؤكد أن هذه الاضطرابات تجعل شبه مستحيل في الوقت الحالي إجراء أي مفاوضات مع طهران. ذلك أن أي تفاوض مع نجاد، سوف يعطي حكومته شرعية تفتقر إليها في الداخل. وبالمثل، فإن أي مكاسب تتحقق عبر التفاوض مع النظام الحالي -وهو نظام يسعى تكتيكياً لاكتساب شرعية طالما يتعطش إليها- تظل مؤقتة وعابرة هي الأخرى. وعليه، يمكن القول إن أفضل استراتيجية للتعامل مع نظام نجاد الحالي هي اللافعل. وهذا ما عبرت عنه وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، باستبعادها إجراء أي مفاوضات في الوقت الحالي مع طهران. فلا تزال الكرة في ملعب إيران، على إثر العروض السخية التي قدمها لها الغرب في شهر أبريل الماضي، مقابل إجراء مفاوضات جدية ومثمرة معها. وهناك من يزعم أن طهران باتت قاب قوسين أو أدنى من تطوير قنبلتها النووية. ولكن لا يزال هذا الخطر بعيداً جداً في حقيقة الأمر. وبالنسبة للغرب، فإن أفضل استراتيجية يمكن تبنيها، هي الاحتواء والردع النووي، لا سيما وأن هذه الاستراتيجية قد أثبتت فعاليتها في ردع الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين ونظيره الصيني ماو تسي تونج سابقاً، ثم حديثاً الزعيم الكوري الشمالي. ويجب القول إن الوقت ليس في مصلحة النظام الحالي، ووسط كل هذه الاضطرابات... هل ثمة إجابة عن السؤال: هل يوجد في إيران معتدلون؟ والإجابة: نعم وبالملايين.. كما رأيناهم أخيراً. -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"