تعمدت وضع عنوان هذه المقالة بين مزدوجتين لأشير إلى أنني استعرته من عنوان الكتاب الذي سأتناوله هنا. مناسبة الحديث عن هذا الموضوع ما حصل ويحصل في إيران بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وظهور كتاب عن التجربة السياسية في إيران، وتحديداً عن مستقبلها الديمقراطي. كتاب "حدود الديمقراطية الدينية"، للباحث السعودي، الدكتور توفيق السيف، صدر عن "دار الساقي" في لندن عام 2008. تأتي أهمية الكتاب من أنه يقدم دراسة جادة ومعمقة لإشكالية علاقة الدين بالدولة من خلال اختبار مسألة معينة، وهي إمكانية تحقق الديمقراطية في ظل دولة دينية. الجانب الآخر لأهمية الكتاب أنه يستخدم النموذج الديني السياسي الذي أفرزته التجربة الإيرانية منذ الثورة عام 1979 وحتى عام 2005. وهذا تحديداً ما يجعل الكتاب مواتيًا لصلة فكرته المباشرة بما يحدث حالياً في إيران، وبالتالي يتيح فرصة المقارنة بين ما تضمنه من فرضيات نظرية عن التجربة الإيرانية بعد ربع قرن من تدشينها، وبين ما حصل على أرض الواقع في الانتخابات الأخيرة، أو بعد أربع سنوات من نهاية الفترة الزمنية التي اختارها السيف لدراسته. ينطلق المؤلف في هذا الكتاب من فرضية محددة ينتصر فيها للرأي الذي يقول بأنه ليس هناك من تعارض جوهري بين الدين والديمقراطية، وبالتالي بين دولة تأخذ الصفة الدينية (دولة ولاية الفقيه في إيران)، وبين قابلية هذه الدولة لتبني مفاهيم وخصائص الدولة الحديثة، وبشكل خاص سمة الديمقراطية. قبل مناقشة هذه الأطروحة، لابد أولا من استعراض موجز لفكرة توفيق السيف. المجادلة الرئيسية للسيف هي كالتالي: إن "انخراط الدين في العملية السياسية يمثل عاملا حاسماً في تطور الفكر السياسي الديني، بمعنى أن ذلك الانخراط سوف يؤدي على الأرجح إلى جعل الفكر الديني أكثر تقبلا لضرورات الدولة الحديثة وإلزاماتها..."، وبالتالي إلى "تخليه عن المفاهيم التي ظهرت أو تطورت في ظل الدولة القديمة، وبقيت جزءاً من التراث الديني حتى اليوم". هل يكون تطور الفكر الديني هنا في اتجاه احتضان الديمقراطية؟ يقول السيف إن ذلك "يتحدد على الأرجح في ضوء عوامل أخرى، ولاسيما توازنات القوة في البيئة الاجتماعية، ما إذا كانت لمصلحة حكم يقوم على المشاركة الشعبية أو على انفراد النخبة بالقرار، إضافة إلى الاتجاه العام في المحيط الدولي، وما إذا كان يتبنى دعم الاتجاهات الديمقراطية أم العكس" (ص13). هذا الاستشهاد بمثابة المبدأ، أو الفرضية العامة التي يختبرها الكاتب من خلال مراجعته المستفيضة للتجربة الإيرانية كحالة تاريخية متحركة لانخراط الدين" في العملية السياسية. نحتاج أولا إلى تفسير أو تفكيك هذه الفرضية. سوف نلاحظ أن السيف في الجزء الأول من الاستشهاد يقر ضمناً بأن الدين في جوهره يتعارض مع "ضرورات الدولة الحديثة وإلزاماتها". ولذلك فإن انخراط الدين في العملية السياسية هو العامل الأهم، وليس أي عامل ذاتي للدين، الذي سوف يجعل الفكر الديني "أكثر تقبلا" لتلك الضرورات والإلزامات. إلى جانب ذلك، لن يتغير شيء جوهري في الدين بالضرورة نتيجة لانخراطه في العملية السياسية، لكنه سيكون أكثر تقبلا، وليس أكثر قابلية. في الجزء الثاني نجد عاملا خارجياً آخر يتحكم في وجهة تطور الفكر الديني: إما في اتجاه الديمقراطية أو الاستبداد. وهذا العامل الخارجي هو "توازن القوة في البيئة الاجتماعية". والمؤلف محق في إشارته إلى عامل التوازن هذا، لكن ماذا عن المضمون الأيديولوجي للقوى الاجتماعية في هذه الحالة، وماهي إنحيازاتها السياسية؟ من أجل تجسيد صورة النظام السياسي الإيراني الذي انبثق عن الثورة، وإبراز ما يمثله في إطار تطور الفكر السياسي الشيعي، يبدأ السيف كتابه باستعراض تاريخي سريع للمراحل التي مر بها هذا الفكر إلى أن حط رحاله عند فكرة ولاية الفقيه التي يجسدها الحكم الحالي في إيران. كانت البداية مع نظرية "الإمامة المعصومة"، الإمامة الاثنا عشرية، التي صاغها جعفر الصادق في القرن الثامن الميلادي. في القرن 3هـ/9م حصل ما يعرف عند الإمامية بغيبة الإمام الثاني عشر، والتي تسببت بإرباك الفكر السياسي الشيعي، ودخوله ما يشبه حالة الجمود. في القرن 5هـ/11م اكتسب علماء الشيعة أحقية أن يكونوا أصحاب رأي، وليسوا مجرد نقلة للرأي عن الإمام. عندها، يقول المؤلف، حصل الفصل بين المنصب الإلهي للإمام، والغرض من هذا المنصب، أو إدارة مصالح الناس. يبدو أن هذا التطور هو الذي وضع الأساس الأول لتطور نظرية ولاية الفقيه. في القرن 10هـ/16م ظهرت الدولة الصفوية في إيران. وهي أبرز حدث سياسي في تاريخ الشيعة منذ الغيبة، حسب المؤلف. استقطبت هذه الدولة علماء الشيعة، ومن هناك بدأت تتبلور نظرية ولاية الفقيه. لا يتسع المجال هنا لاستعراض كيف حصل ذلك. لكن يتفق المؤلف مع كثيرين على أن الملا أحمد التراقي هو أول من وضع في القرن 13هـ/19م نظرية ولاية الفقيه بصيغتها المعاصرة. في القرن العشرين جاءت الثورة الإيرانية عام 1979م بقيادة الإمام الخميني الذي جعل من نظرية ولاية الفقيه أول نظام للحكم الشيعي. في هذه الحالة لم ينخرط الدين في العملية السياسية، بل صار عمود هذه العملية. السؤال: هل أصبح الدين أكثر قبولا لضرورات وإلزامات الدولة الحديثة؟ أم أن انخراطه مثل نوعاً من النكوص إلى مفاهيم دينية قديمة غير قابلة للتكيف مع متطلبات هذه الدولة؟ يؤكد المؤلف على قابلية الدين للتكيف. ولتوضيح ذلك أشار إلى تبني الخميني لمفاهيم حديثة مثل الجمهورية، والانتخاب، والمواطنة، وحاكمية القانون. كل ذلك صحيح، ويمثل خطوة متقدمة إلى الأمام، لكنه لا يعني أن الدين أصبح أكثر تقبلا للديمقراطية. هناك فرق بين دور الدين في بناء الدولة، وهو دور مشهود له عبر التاريخ، وبين قابلية الدين لأن يتبنى منطق الدولة، خاصة في صيغتها الديمقراطية. وهناك أيضاً فرق بين كون الدين عنصرا من عناصر الهوية الحضارية والتاريخية للدولة، وبين تدخل الدين في الدولة، وقابليته للتوظيف السياسي في إطارها. لعل ما حصل في الثورة الإيرانية هو أن الدين لعب دور الرافعة لتحول تاريخي لم يكن من الممكن تفاديه. دور الدين هنا أنه سهل مرحلة انتقالية بين استبداد نظام الشاه، ونظام ديمقراطي منتظر. يتبين ذلك من التناقض الحاد في النظام السياسي الإيراني الحالي بين الأساس الديني لنظرية ولاية الفقيه التي تعطي هذا الفقيه سلطات أكبر من تلك الممنوحة لمؤسسات الدولة الأخرى، وبين آليات ديمقراطية تتطلب تحكيم القانون، والمحاسبة، والفصل بين السلطات، ونزع صفة التقديس عن كل من يعمل داخل الدولة. وهذا التناقض طبيعي لأنه يعكس الاختلاف الجذري بين الدين كمنظومة قيمية حصرية (Execlusive)، والدولة كنظام شمولي (Inclusive) يتسع من حيث الحقوق والواجبات لجميع المواطنين. يتميز الدين عن الدولة أيضاً بأنه ينزع نحو التقديس، ونحو التشرذم الطائفي. في حين أن الدولة كنظام سياسي وقانوني تقوم على الحقوق والمصالح السياسية، وفي صيغتها الديمقراطية على حكم القانون، والتعددية، وفصل العملية التشريعية عن النصوص المقدسة. لذلك، نظراً لطبيعتها الدينية، سنت دولة ولاية الفقيه الإيرانية قوانين مفصلة على أساس مذهبي وطائفي. منها أن منصب المرشد حق حصري لعلماء الدين الشيعة. وهذا أمر لا يمكن تفاديه بحكم الهوية المذهبية للدولة. حتى حق الترشح لرئاسة الجمهورية محصور دستورياً في المواطن الذي يتبع مذهب الدولة، الشيعي الاثنا عشري. بل إن مجلس صيانة الدستور ذهب أبعد من ذلك، خاصة في الانتخابات الأخيرة في فحص مؤهلات الذين تقدموا للترشيح. كان عدد هؤلاء أكثر من 400. ولم يسمح إلا لأربعة من أبناء النظام السياسي. بمعنى أنه حتى في إطار المذهب، لابد أن يكون المرشح متوافقاً مع الخط الديني للطبقة الممسكة بالحكم. لم تضف الانتخابات الأخيرة جديداً بالنسبة لحدود قابلية الدولة الدينية لفكرة الديمقراطية. لكنها أكدت أن هذه الحدود أضيق كثيراً حتى من حدود المذهب الديني الذي تعتمده الدولة. كيف يمكن أن توصف هذه الدولة بأنها ديمقراطية؟ قارن هذا مع الدولة التركية التي فرضت أولا العلمنة ونحت الدين جانباً، ثم عاد الفكر الديني إلى الدولة وتصالح مع فكرة العلمانية، وبالتالي صالح بينها وبين الإسلام. المثال التركي يقول إنه ليس هناك تناقض بين الإسلام والعلمانية والديمقراطية. أما المثال الإيراني فيقول عكس ذلك. آلية إعادة تفسير النصوص الدينية وفقاً للمرحلة التاريخية، التي يتبناها السيف، طبقت في تركيا، وليس في إيران. ومع ذلك يبقى كتاب السيف ممتعاً، ويستحق القراءة فعلا.