مع إعلان واشنطن عزمها إرسال سفير لدمشق بعد أكثر من أربعة أعوام من سحب السفيرة الأميركية من هناك إثر مقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، تكون أميركا قد رسمت استراتيجيتها في المنطقة في سلسلة مواقف ورسائل لمن يهمهم الأمر وخاصة في العواصم الثلاث طهران ودمشق وتل أبيب، ولحلفائها في المنطقة، وتكون لعبة الشطرنج قد بدأت للتو على جميع المحاور. وما يجري في إيران هذه الأيام ستكون له مضاعفات مهمة، مع توقعنا أن موجة العنف والاحتجاجات التي تم قمعها قد أضعفت الموقف في الداخل، وطرحت تساؤلات كانت لا تخرج في السابق إلى العلن بانتقاد النظام وطرحت أسئلة مشروعة. وبغض النظر عن نهايات ومآلات الأزمة الإيرانية، فإن الأكيد هو أن إيران تبدو متراجعة، وفقدت الكثير من الزخم مما سيؤثر على مبادراتها وجرأتها في التحدي والمغامرات، ما يعني، استطراداً، انفتاح أفق جديد أمام مقاربة أوباما تجاه طهران. ثم جاء إلغاء إدارة أوباما لاجتماع في باريس بين المبعوث ميتشل ونتانياهو، وإعلان واشنطن بالتزامن مع ذلك عن استئناف العلاقات مع دمشق على مستوى السفراء، وهذه حركات أميركية لها دلالاتها ورسائلها. ويبدو واضحاً أنه على رغم أن العلاقة الأميركية- الإسرائيلية في كنف أوباما لن تخرج عن الثوابت والتمسك والالتزام الأميركي تجاه إسرائيل، إلا أن الإدارة الجديدة تنتهج أسلوب تعامل مع إسرائيل يأخذ أيضاً مظالم العرب إلى حد ما في الاعتبار، ويحرج إيران دون أن يخرق الثوابت الأميركية. وهذه المقاربة الأميركية الجديدة مع إسرائيل تذكر بموقف إدارة بوش الأب عندما أعطى جيمس بيكر رقم هاتف وزارته بعد مؤتمر مدريد عام 1991، ليتصل المسؤولون الإسرائيليون عليه متى أوقفوا بناء المستوطنات. وليس خلواً من المعنى هنا ما نقلته صحيفة إسرائيلية عن مسؤول هناك من أن إدارة أوباما أرسلت رسالة بالغة العتب لنتانياهو تقول: "عندما تنجزون ما طلبناه منكم من وقف بناء المستوطنات يمكن عندها فقط أن تخبرونا. وحتى يحدث ذلك فلا داعي لأن يقوم ميتشل بلقائك في باريس". وإذا عطفنا على هذه الرسالة، مغزى وهدف الانفتاح على سوريا لفك ارتباطها مع إيران، فإنه سيكون بمقدورنا القول إن الإدارة الأميركية حركت حجرين على رقعة الشطرنج الإقليمية، وغيرت من استراتيجيتها، واقتربت من خط الوسيط النزيه، وهو ما افتقدته الإدارات الأميركية المتعاقبة. وبصدودها عن نتانياهو تكون إدارة أوباما قد وجهت أيضاً رسالة إيجابية أخرى للجانب العربي الذي لطالما اتهم الإدارات الأميركية المتعاقبة بالتحيز لإسرائيل. كما تقدم دليلا واضحاً على أن أميركا يمكن أيضاً أن تقول "لا" لإسرائيل وتقف معارضة لمشاريعها. وبذلك كسبت واشنطن نقاطاً إيجابية عند العرب، ستبني على الأساسات الصلبة بعد خطاب أوباما في جامعة القاهرة، وتثبت أن إدارته جادة فعلا في سعيها لحل الدولتين. وبذلك تغطي ظهر حلفائها العرب، وتحرم إيران من استخدام ورقة الصراع العربي/ الإسرائيلي للتكسب السياسي، وتزيد من إحكام الحصار على طهران في أوراق وملفات المنازلة الأخرى معها، وخاصة مع بدء الانسحاب العسكري من المدن في العراق. غير أن إدارة أوباما ما زالت تنهال عليها سهام النقد بسبب مقاربتها للشأن الإيراني بعد ما جرى هناك، حيث يقول المنتقدون إن أميركا تبدو لينة وبمظهر ضعيف تاركة زمام المبادرة بل والقيادة للأوروبيين. ولعل أكثر من ينتقد سياسة الإدارة اليوم هو اليمين الأميركي والغربي المطالبان بأن توقف أميركا سياسة اليد الممدودة مع إيران بعد ما قام به النظام من تجاوزات. ويبقى التساؤل عن تأثير ما يجري الآن في إيران على حلفائها، وكيف ستحرك واشنطن بقية أحجار الشطرنج على رقعة المنطقة في المنازلة الكبرى مع طهران التي تحرق دبلوماسية أوباما سياسياً ما تبقى لها من أوراق قوة بدءاً باحتواء سوريا، وليس انتهاءً بخسارة بقية حلفاء طهران في لبنان، وتعاونهم مع حكومة يرأسها سعد الحريري، وكذا الكلام الإيجابي الصادر عن خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لـ"حماس". ولعل أقل ما يمكن قوله عن توجهات وحركات شطرنج إدارة أوباما الآن هو أنها تسعى لإرساء استراتيجية تعتمد الدبلوماسية الذكية، وتوظيف المهارات، وقرن الأقوال بالأفعال، ولو مرحلياً. ولكن هذه الاستراتيجية تتطلب موقفاً عربياً موحداً يبدأ بلم الشمل الفلسطيني، وتوحيد الصف العربي بشكل عام، لعل ذلك يؤسس لنواة مشروع عربي ما يتصدى للمشاريع الإقليمية الإسرائيلية والإيرانية في لحظة مهمة من تاريخ المنطقة. ويحسن بنا كعرب أن نستفيد من هذه الفرصة على رغم ما قد يقال عن محدوديتها، وما قد يروج من مراهنة على فشلها.