الأزمة الاقتصادية التي تمسك بخناق العالم الآن في طريقها إلى الاختفاء. لكن قد لا نعرف بالضبط، متى، وأين، وكيف... بيد أن هناك شيئا واحدا مؤكدا هو أنه ليس ثمة ما يمكن أن يبدد موجات التغيير في التاريخ الإنساني، تلك الموجات التي اجتاحت الصيادين، وجامعي الثمار في كثير من أجزاء العالم السحيق، وأحلت محلهم المزارعين. ثم اجتاحت هؤلاء أيضاً وأحلت محلهم العمال الصناعيين، وبعد ذلك، ومنذ نصف قرن تقريباً، أستبدلت عمال خطوط الإنتاج في المصانع بالعاملين في مجال إنتاج المعرفة. وهذه الموجات الثلاث الكبرى للتغيير، ربما تكون قد تأخرت، أو انتقلت جغرافياً، أو عُرقِلتْ، أو سُىرِّعَتْ بسبب الحروب أو الكوارث أو بهما معاً، وربما تكون قد هُمشت مؤقتاً بفعل الطبيعة. كل ذلك جائز ومحتمل، بيد أن الشيء المؤكد أنه لا شيء على الإطلاق قد نجح في إيقاف تلك الموجات على مدار عشرة ملايين عام. يجب أن ننظر إلى الأزمة الاقتصادية الحالية، على ضوء هذه الحقيقة الراسخة، ويجب علينا أن نعرف في هذا السياق أنه وإن كان هناك أناس كثيرون يعانون الآن من تداعيات الأزمة الاقتصادية، فإن تلك المعاناة سوف يأتي عليها يوم وتنقشع بلا ريب. فضلا عن ذلك فإنه من المعروف أن الأزمات الاقتصادية، عادة ما تجلب معها فرصاً غير عادية لتغيير وتحسين ترتيباتنا الاجتماعية، وأساليبنا في الحياة. الخطر الماثل أمامنا الآن هو أن السياسيين في كافة الدول (الواحدة تلو الأخرى)، وفي إطار استجابتهم لتلك الأزمة، يسابقون الزمن من أجل إعادة إنتاج الماضي بدلا من الاستعداد للمستقبل. من ضمن الأمثلة على ذلك هذه الاستثمارات الهائلة التي يجري ضخها في مشروعات البنية التحتية. فعلى الرغم من أنه كانت هناك التزامات هائلة بتوفير الوظائف قبل اندلاع الأزمة الاقتصادية الحالية، إلا أن ما حدث أثناءها، وحتى الآن، هو تخصيص قدر هائل من الأموال الإضافية من أجل توفير العمل لهؤلاء الذين تعرضوا فجأة للبطالة بعد أن أغلقت العديد من المشروعات أبوابها كنتيجة مباشرة للأزمة. وعلى الرغم من أن بعض عمليات ضخ الأموال والاستثمارات التي تمت، كانت لا تخلو من الحكمة، إلا أن عدداً كبيراً منها كان مخصصاً للوفاء باحتياجات الأمس الصناعية بدلا من التأهب للوفاء بمتطلبات المستقبل. فعلى سبيل المثال هناك في الوقت الراهن طرق خارجية بين المدن وبعضها، وطرق عمومية داخل المدن ذاتها، في حاجة ماسة إلى الإصلاح، على افتراض أن تلك الطرق سوف تستمر في خدمة المسارات التي نتخذها في أثناء ذهابنا للعمل وعودتنا منه. وأصحاب هذا الافتراض وغيره، عادة ما ينسون أن يوجهوا لأنفسهم سؤالا مؤداه: ماذا يمكن أن يحدث عندما يؤدي توافر أجهزة كمبيوتر أسرع وأصغر وأرخص، وتوافر تقنيات اتصالات أحدث وأرخص، إلى خلق وضع جديد معناه أنه لم تعد ثمة ضرورة كي يذهب العاملون في مجال المعرفة إلى مكان معين كي يقوموا بأعمالهم فيه، حيث أنه يمكنهم القيام بهذه الأعمال من منازلهم، بما يؤدي إلى التقليل بدرجة كبيرة من حجم الضغط الواقع على تلك الطرق التقليدية؟ هل سنحتاج مع مثل هذه الأوضاع إلى نفس الطرق، أو إلى طرق جديدة، أم أن حاجتنا إلى تلك الطرق سوف تكون أقل مما هي عليه في الوقت الراهن؟ من الأشياء الباعثة على مزيد من القلق، المقاربة التي تتبناها الدول لموضوع التعليم. فمدارس التعليم العام في العديد من البلدان هي في جوهرها مصانع مصممة لتجهيز الصغار، وإمدادهم بالمهارات المطلوبة في بيئات العمل القائمة على خطوط التجميع، أي استلام الأوامر، والحضور إلى العمل والانصراف منه في المواعيد المحددة، وأداء عمل متكرر على الدوام، والعمل في بنية تنظيمية هرمية بيروقراطية. والمعارك الدائرة حالياً حول تمويل التعليم ومناهجه، تغفل عادة عن نقطة جوهرية وهي أن بزوغ الاقتصادات القائمة على المعرفة، أو قطاعات متقدمة في الاقتصادات الصناعية، له متطلبات تختلف اختلافاً جذرياً عما هو قائم حالياً. فهذا البزوغ للاقتصادات يحتاج إلى عاملين قادرين على التفكير المستقل، وعلى إنتاج أفكار جديدة، في ظل ظروف وقواعد عمل متغيرة على الدوام، بما في ذلك عمليات إعادة الهيكلة والتشكيل التنظيمية المتكررة، والتقديم المتواصل لاتفاقيات جديدة، وحلقات الوصل المتغيرة على الدوام، مع المنظمات التي تتراوح ما بين الوكالات الحكومية والمجموعات غير الحكومية. البنى التحتية والمدارس ليسا القصة بكاملها؛ ذلك أن معظم مؤسساتنا، بدءاً من مؤسسات الرعاية الصحية والطاقة والبيروقراطية الحكومية، مصممة خصيصاً لخدمة احتياجات العصر الصناعي. ومعظم المقترحات الخاصة بإصلاح هذه المؤسسات مبنية على الماضي وليس على المستقبل. والشيء المفتقد في تلك المقترحات، هو تلك الأفكار الإبداعية اللازمة للمؤسسات والسياسات الأكثر ملاءمة للمستقبل. ولاجتراح هذه الأفكار فإننا نحتاج إلى إطلاق ملكات الخيال، والقوة الذهنية للمجددين الاجتماعيين. عندما كان العصر الصناعي ينتشر عبر أوروبا وأميركا، اُخترعت بنى اجتماعية جديدة للتكيف مع المشهد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي البازغ. ونحن كثيراً ما ننسى أن كل مؤسسة تقريباً من المؤسسات الموجودة لدينا في الوقت الراهن، بدءاً من المستشفيات وحتى المدارس، ومن البنوك وحتى المطارات... كانت في يوم من الأيام غير موجودة. فأول أوركسترا، وأول اتحاد عمال، وأول فريق لكرة القدم، وأول سينما، وأول بقالة تطبق أسلوب الخدمة الذاتية (تحولت فيما بعد إلى السوبر ماركت)... قد اُخترعت كلها بواسطة شخص ما في مكان ما، وهو ما ينطبق أيضاً على المنتجات اليومية المعتادة التي نعتمد عليها في حياتنا سواء في المنزل أو في موقع العمل. ومن سوء الحظ، أنه في الوقت الذي كانت المكافآت المالية تذهب في معظم الأحيان لهؤلاء الذين أثمرت اختراعاتهم الخلاقة منتجات أو تقنيات جديدة، فإن ذلك، وإلى حد كبير، لم يكن ينطبق على هؤلاء الذين أنتجوا بُنى، ومؤسسات اجتماعية جديدة. وفي الوقت الذي نتحرك فيه إلى الأمام، فإننا بحاجة إلى تقديم الحوافز والمكافآت لهؤلاء الذين سيصممون النظم الجديدة، والشبكات، والمنظمات الملائمة للتقنيات، واقتصادات، ومجتمعات الغد القائمة على المعرفة. واليوم، في الوقت الذي تنتقل فيه أجزاء كثيرة من العالم من مرحلة العصر الصناعي إلى مرحلة ما بعد العصر الصناعي، فإن الاختراعات الاجتماعية سوف تكون مماثلة في الأهمية للتقنيات الجديدة إن لم تفقها في الأهمية. ولقد حان الوقت للاعتراف بشيئين: التقادم المتزايد للبُنى الاجتماعية التي نعتمد عليها، وأن المخترعين الاجتماعيين سيكونون هم أبطال الغد. الفين توفلر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومفكر أميركي في شؤون المعلومات والمستقبل ينشر بترتيب خاص مع خدمة"تريبيون ميديا سيرفس"