عندما انهارت أنظمة أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي واحداً تلو الآخر، بدا أن الفلسطينيين خسروا إحدى أهم جبهات المساندة العالمية. والشيء المهم في تلك الانهيارات أنها جاءت في أعقاب ثورات شعبية بعضها سلمي وبعضها دموي ضد أنظمة دكتاتورية وتوتاليتارية لم تعد تحظى بأدنى شعبية في بلدانها. واكتشف الفلسطينيون، وكثير من ثوريي العرب وثوريي العالم عمق المأزق الذي كانوا قد تغافلوا عن تأمله لسنوات، بل لعقود طويلة ماضية، والمتمثل في تحالفهم مع أنظمة معادية لشعوبها بقدر ما هي معادية للولايات المتحدة والإمبريالية الدولية. صحيح أن الغرب ساعد حركات التمرد التي قادت إلى سقوط الأنظمة الاشتراكية، خاصة عبر التغطيات الإعلامية والتأييد الدبلوماسي، لكن نعرف الآن أن تلك الأنظمة وصل تآكلها الداخلي إلى مداه الأقصى، وأنه لو لم تكن تلك الثورات شعبية بحق وكاسحة لما انتصرت وأسقطت النظم السلطوية والشمولية. وهكذا وفي لحظة زمنية تبدو الآن وكأنها قصيرة جداً خسر الفلسطينيون معسكر الأصدقاء الأهم في العالم، وتوج ذلك بانهيار الاتحاد السوفييتي. واكتشف الفلسطينيون أن تحالفاتهم الأوروبية الشرقية لم تتعد الطبقة الرقيقة للأنظمة الحاكمة، ولم تكن لها أية أبعاد شعبية ضاربة. بل إن كثيراً من الشرائح والنخب في تلك البلدان كانت تنظر إلى الفلسطينيين وقضيتهم كعبء تتحمله بلدانها من دون أي مسوغ، وتخسر بسببه علاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، بل ودعماً مادياً وعلمياً من إسرائيل. ومع سيطرة حكومات وأحزاب جديدة ذات ميول وولاءات غربية وأميركية في تلك الدول، وعلى خلفية غياب أي وجود فلسطيني وعربي مترسخ على مستوى شعبي، بدأ موسم الهجرة إلى إسرائيل، وتغيرت طبيعة التحالفات بشكل جذري. وكان من أوائل القرارات التي اتخذها فاكلاف هافل الرئيس التشيكي بعيد سقوط النظام الاشتراكي إقامة علاقات مع إسرائيل واستقبال "الدالاي لاما" الزعيم الروحي للتبت، وهما قراران يرضيان واشنطن ويحددان وجهة التشيك الجديدة. وعلى شاكلة هذا القرار سارع السياسيون الجدد من أذربيجان وكازاخستان، وحتى أستونيا ولاتفيا وفي القلب من ذلك كله روسيا، باتجاه إسرائيل، ونفض كل ماضيهم المؤيد للفلسطينيين والقضية الفلسطينية. وتلح تجربة الفلسطينيين في أوروبا الشرقية في ضوء مضاعفات أحداث الانتخابات الرئاسية الإيرانية، وما يذكره كثير من التقارير القادمة من إيران التي تتحدث عن توجهات الأجيال الجديدة، مؤكدة أنها بعيدة عن مناخات الثورة ومرشدها الروحي، والحرس الثوري، وكل الجهاز التقليدي الذي يعلن تحالفه مع "قوى المقاومة" في المنطقة ومنها "حماس" في فلسطين. وهناك تيارات شبابية وغير شبابية غاضبة على توجهات نجاد تحديداً و"الثورة" بشكل عام بسبب الأكلاف التي جرّتها طبيعة السياسة الخارجية، وما يتعلق منها بفلسطين ودعم الفلسطينيين. ولهذا فإن مقاربة الفلسطينيين (وخاصة حركة "حماس") ونظرتهم إلى إيران ونوع التحالفات التي ينخرطون فيها مع طهران تحتاج إلى إعادة تقييم دقيق، في ضوء التجربة الفلسطينية الطويلة في التحالفات والعلاقات الدولية. ولا نريد أن نكتشف بعد فترة زمنية قد لا تكون طويلة أن كل التأييد الإيراني لفلسطين لم يكن يتعدى الطبقة الحاكمة، مقابل تشكل رأي عام ناقم على الفلسطينيين بسبب تطرف خيارات القيادة الإيرانية نفسها، وليس بسبب الفلسطينيين ذاتهم. وهناك تحديداً قضيتان مركزيتان في الخطاب النجادي المتشدد من شبه المؤكد أنهما سترتدان سلبياً وبشكل كبير على الفلسطينيين على مستوى خفض التأييد الشعبي الإيراني وهما: الدعوة إلى محو إسرائيل عن الخريطة، ومواصلة إنكار "الهولوكست". إذ من المتوقع أن يتساءل ملايين الإيرانيين عن الفائدة التي تجنيها إيران جراء تبني خطاب تكون هذه بعض مرتكزاته. وسيُنسب إلى هذا الخطاب كثير من العداء الغربي لإيران، وكثير من الأكلاف التي تدفعها إيران والإيرانيون جراءه. وهي أكلاف تتعدى الصورة العامة المنتشرة في العالم عن إيران، إلى معطيات عملية وواقعية على الأرض لها علاقة بالوضع الاقتصادي والتعاون الدولي وسوى ذلك. وما يهمنا هنا هو كيف ستكون ردة الفعل ليس فقط إزاء هذين المكونين في خطاب نجاد، بل إزاء القضية الأكبر، فلسطين، والتي ستربط قسراً في اللاوعي الجمعي بكونها مسبب بروز ذلك الخطاب. فالمشكلة هنا ليست في تأييد فلسطين، بل في تبني خطاب مزايدات يستهدف تحقيق مجموعة من الأهداف التي لا علاقة لها بفلسطين أو الفلسطينيين (مثل تعزيز شعبية نجاد الداخلية، واستخدام هذا الخطاب كورقة ضغط ضد الغرب في المفاوضات حول الملف النووي... الخ). لكن هذا الاستخدام الانتهازي للورقة الفلسطينية والمحكوم تعريفاً بسقف تحقيق الأهداف المحددة يعمل على المدى المتوسط والبعيد على تآكل التأييد الشعبي العفوي لقضية فلسطين بكونها قضية عادلة وقضية إسلامية وذات بعد مقدس في المخيلة الإيرانية العامة. وبمعنى آخر ربما تتكرر التجربة الفلسطينية في أوروبا الشرقية مع إيران، حيث يتعدى فقدان التحالف مع النظام الحاكم الخسارة المباشرة، إلى خسارة التأييد الشعبي. وليس هناك حل سهل لهذه المعضلة عند الطرف الفلسطيني الآن، كما لم يكن هناك حل لها خلال مرحلة التحالف مع الكتلة الشرقية (بافتراض وجود وعي بها آنذاك). ففي خضم الصراع متعدد الأبعاد مع إسرائيل، ومنها الإقليمية والدولية، فإن سمة الحراك الفلسطيني العام (أو الحزبي والفصائلي) هي حشد الحلفاء والأنصار، دولا وهيئات وجمعيات وأحزاباً ومنظمات فاعلة. وفي ضوء تمتع إسرائيل بجبهة تحالف واسعة ومع القوى الأكثر تأثيراً وسيطرة على مجريات الأحداث في العالم، فإن السرعة والانقضاض على الإمساك بأي تحالف ممكن تكونان من السمات المميزة لذلك الحراك. وفي حالة تحالف "حماس" مع إيران فإن ظرف الحصار الذي وضعت الحركة تحته بعد فوزها بالانتخابات عام 2006 على وجه التحديد دفع بـ"حماس" إلى الحضن الإيراني، هذا من دون إعفاء الحركة من مسؤولية الانجراف أحياناً بلا حدود في ذلك الاتجاه. ولكن في كل الأحوال فإن أقل المطلوب هنا هو عدم الاصطفاف الصبياني في معسكر نجاد ضد خصومه الداخليين الكثر، حتى لا يسقط من يؤيده في نظر الشعب الإيراني إذا ما سقط هو أو خطابه أو سياساته، إن لم يكن في هذه الانتخابات ففي غيرها. كما أنه ليس من الحصافة ولا الدبلوماسية ولا حتى الموضوعية وصف خصومه بأنهم "عملاء للغرب" وبأن الملايين الذين اعترضوا على نتائج الانتخابات هم نتيجة تدخل الغرب. فهذا كله تسطيح للأمور، وجذوره تقبع في التفكير المؤامراتي وليس في التحليل الموضوعي. كما أن فيه إهانة للشعب الإيراني وملايينه بأن الغرب يستطيع تحريكهم عن بُعد بهذه السهولة الفائقة! وفي معظم البلدان الإسلامية والعربية، هناك انقسام رأسي مجتمعي بين قوى محافظة وتقليدية وقوى حديثة وليبرالية، وهو انقسام يأخذ تلاوين ودرجات مختلفة بحسب الظروف الخاصة بكل بلد. وفي درجاته الحادة يتمظهر هذا الانقسام على شكل حروب أهلية أحياناً، وعندما يُتاح له أن يعبر عن ذاته بالوسائل السلمية والانتخابية يخرج بوضوح إلى السطح كما هي حالة إيران الآن.