معضلة السياسة الخارجية الإيرانية
على ضوء نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، تبدو لنا إيران من الخارج بأنها تقع على مفترق طرق على صعيدي سياستها الداخلية والخارجية، وأن الخلافات بين فصائل النخبة الدينية الحاكمة فيها لا تفصح عن مؤشرات بأنها ستنتهي قريباً. والدليل على ذلك هو أن ما أعقب الانتخابات من طعون حادة، ومظاهرات احتجاج، وأعمال قمع دموية للمتظاهرين وعدم القبول بنتائج الانتخابات، أدخلت إيران في دوامة من عدم الاستقرار السياسي، وأججت من نيران الصراع بين من يعرفون بـ"المحافظين" المتشددين و"الإصلاحيين" المعتدلين، فقد دعا المرشح للرئاسة مير حسين موسوي، الذي يطعن في النتائج الانتخابية الأخيرة أنصاره إلى عدم القبول بتلك النتائج والخروج إلى الشارع للاحتجاج عليها. وقابل ذلك أن ردت الحكومة بعنف على المظاهرات لإعادة الهدوء إلى البلاد.
الأوضاع السياسية الإيرانية الداخلية صعبة القراءة على المراقب الخارجي، وهي معقدة بقدر ما هو معقد وضع المجتمع الإيراني ذو التركيبة الفسيفسائية التي يسيطر عليها رجال الدين الشيعة بقبضة من حديد. وفي الوقت نفسه لا تقل السياسة الخارجية الإيرانية صعوبة وتعقيداً، فالأخيرة يسيطر عليها رجال الدين الشيعة أيضاً، وهي تتصف بخلافات تكتيكية حادة بين المتشددين والإصلاحيين. والواقع هو أن تحليل السياسة الخارجية الإيرانية منذ تولي الرئيس الحالي مقاليد السلطة، يحتاج إلى فهم التداخل بين العناصر الداخلية والخارجية، فهي التي تشكل اتخاذ القرار من قبل زعامات رجال الدين الشيعة.
الرسميون الإيرانيون "المحافظون" الذين يقبعون في الواجهة يحتفظون لأنفسهم بحق اتخاذ جميع القرارات التي تخص الأمن القومي الإيراني بعيداً عن التأثيرات والتدخلات العامة، وبالإضافة إلى ذلك فهؤلاء لم يتراجعوا عن الصورة والشعارات القوية التي أطلقتها الثورة الإسلامية خلال العقد الأول لقيامها رغم العديد من الإخفاقات التي منيت بها محاولاتهم لـ"تصدير الثورة".
وفي الوقت الذي يعلمون فيه بمدى أهمية التحاور مع العالم الخارجي واللاعبين على الساحة الدولية، ولا ينفون فيه الحاجة إلى التبادل التجاري والاستثمارات، إلا أنهم لا يزالون يؤمنون بأن أيديولوجية عالمية الإسلام يجب أن تقود جميع توجهات إيران الخارجية.
أما من يعرفون بـ"الإصلاحيين"، فإنهم يرون بأن تنفيذ السياسة الخارجية، يجب أن يستفيد من النقاش العام والتحاور الداخلي، لأن ذلك من شأنه أن يتماشى مع جوهر الإصلاحات الداخلية، وأن يمكن الجمهورية الإسلامية من العودة الكاملة إلى المجتمع الدولي. ويعتقد "الإصلاحيون" بأن إيران تضررت كثيراً من سنوات الحرب التي خاضتها ضد العراق ومن عدم الاستقرار الإقليمي للبلاد والمغامرات التي تسببت في ذلك، ويفضلون عوضاً عن ذلك أن تدخل بلادهم في علاقات وحوار مع العالم الخارجي.
المتشددون يحتفظون بموقفهم "لا شرق ولا غرب، الجمهورية الإسلامية فقط"، وفي المقابل يبدي "الإصلاحيون" رغبة في التعاون مع العالم الخارجي على نطاق محدود رغم أنهم يختلفون- كغيرهم من رجال الدين الشيعة- مع العديد من دول العالم حول العديد من القضايا، كبرنامج إيران للتسلح النووي، والتسلح المتسارع، ودور إيران في الخليج العربي، والموقف الإيراني من الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. والأمر الذي يعقد من الاختلافات بين المتشددين و"الإصلاحيين" حول السياسة الخارجية الإيرانية هو الحقيقة الجغرافية لإيران، التي لا يمكن الهروب منها، فإيران تقع على مفترق الطرق بين آسيا الوسطى والعالم العربي، وتحيط بها المياه الممتدة لبحر قزوين والخليج العربي وخليج عُمان. وهذه المعطيات تجعل من إيران بلداً ذا أهمية استراتيجية للعالم أجمع، لذلك فإن الأحداث التي يمكن أن تمر بها طهران حالياً، تزيد من قيمة إيران الاستراتيجية، وتفاقم من معضلة سياستها الخارجية.
الأوضاع الإيرانية الحالية غير مطمئنة، لأن التوجهات المتضاربة في أوساط رجال الدين الشيعة، لا تفصح عن استعداد لإنهاء الصراع قريباً. ويبدو القادة منهم توصلوا إلى أن بقاء الوضع على ما هو عليه يتسبب في خسارة أقل للبلاد من ترك أحد التيارين يقضي على التيار الآخر، فتيار موسوي ليس في وسعه التخلي عن المطالبة بالإصلاح، و"المحافظون" يريدون تجنب اللجوء إلى العنف تجنباً لإشعال حرب أهلية.
ما يخرج به المرء هو أن عدم رضا واسع يسود توجهات "المحافظين" المتشددين، والدليل على ذلك أن الإيرانيين من كافة أطياف المجتمع يفصحون عن ذلك بوسائل مختلفة، لكن يبدو بأن "الإصلاحيين" لم يتمكنوا بعد من الاستفادة من عدم الرضى الواسع السائد، أو هذا على الأقل هو ما أفصحت عنه نتائج الانتخابات.. وربما يعود السبب في ذلك إلى أن المجموعات التي تشكل هذا التيار أقل تنظيماً ونفوذاً في مؤسسات السلطة، وليس لديهم بديل إيديولوجي واضح لما يرونه لمستقبل البلاد يحل عوضاً عما تنادي به إيديولوجيا الجمهورية الإسلامية.