لقد طغت تطورات دراما الانتخابات الرئاسية الإيرانية وما أعقبها من أعمال عنف وشغب، على التغطية الإعلامية لخطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو الذي ألقاه بتاريخ 14 يونيو الجاري بعد أن طال انتظار المحللين والمراقبين له. ذلك أن طهران تشهد اليوم أكبر نهوض شعبي غير مسبوق منذ أيام ثورتها في عام 1979. وتشير مؤشرات الأحداث والتطورات الجارية الآن هناك، إلى أن إيران ستصبح جبهة رئيسية ومحوراً للسياسات الشرق أوسطية خلال عدة أسابيع مقبلة، بقدر ما تمثل تحدياً رئيسياً لإدارة الرئيس أوباما على نحو خاص، لأنها تعهدت ببدء التفاوض الدبلوماسي مع النظام الحاكم في طهران. لكن وعلى رغم ذلك، فإنه من المتوقع أن يثير خطاب نتانياهو عدداً من التساؤلات الرئيسية المهمة، إضافة إلى التحدي الذي يمثله بالنسبة لإدارة أوباما التي تبدي عزماً على الدفع بعملية التسوية السلمية للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، وتعطي أولوية قصوى للتوصل إلى حل سلمي للنزاع، في ذات الوقت الذي تتصدى فيه للأزمة الناشئة عن برامج إيران النووية. فبفضل ضغوط واشنطن المتواصلة، اضطر نتانياهو أخيراً للاعتراف بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، لكنه لم يعلن ذلك الاعتراف إلا بعد تردد وتعنت كبيرين. واستخدم نتانياهو في خطابه المذكور لغة مخادعة دست فيها المواقف الرافضة لفكرة الدولة الفلسطينية دساً ماكراً. فبينما أعلن عن قبوله الظاهري العلني لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، نراه قد أحاط ذلك القبول بطائفة من الشروط المجحفة التي دفعت السلطة الفلسطينية إلى رفضها مباشرة، بينما وصفها الرئيس المصري حسني مبارك بـ"العنصرية". ومن بين الشروط الواردة في الخطاب والمتضمنة في اعتراف نتانياهو بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، مطالبته القيادة الفلسطينية أن تعترف بإسرائيل باعتبارها دولة أمة لليهود. كما طالب بأن تكون الدولة الفلسطينية المرتقبة دولة منزوعة السلاح، وبأن تتم إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين في أي مكان آخر خارج حدود دولة إسرائيل. وفيما يتصل بالمستوطنات قال نتانياهو إن بلاده لا تخطط لبناء مستوطنات جديدة، أو لوضع يدها على مساحات أراض جديدة بغية إقامة مزيد من المستوطنات الإسرائيلية عليها. لكنه في الوقت نفسه رفض الموافقة على التجميد التام والكلي للنشاط الاستيطاني، بما فيه وقف عمليات إسكان المزيد من المواطنين الإسرائيليين في المباني والمنشآت القائمة الآن في المستوطنات. يذكر أن الرئيس أوباما كان قد طالب نتانياهو بهذا التجميد، وهو ما لم يستجب له نتانياهو حتى الآن. والسبب هو علم رئيس الوزراء الإسرائيلي المسبق بأنه سوف يخسر الكثير من الدعم السياسي الذي يتمتع به حالياً من قبل أعضاء مجلس وزرائه المؤلف من اليمينيين المتشددين، في حال موافقته على الشروط التي حددها أوباما لتجميد النشاط الاستيطاني. وفيما لو حدث ذلك، فإنه لا شك سيرغم إما على حل حكومته الحالية أو مشاركة حزب "كاديما" الأكثر اعتدالا في ائتلاف حكومي جديد، مع العلم أن ليفيني زعيمة "كاديما" أعلنت تأييدها لتجميد المستوطنات. كما عبر نتانياهو عن استعداده لخوض مفاوضات مباشرة مع الفلسطينيين دون شروط مسبقة. لكنه قال إن هذا العرض لا يشمل أي ممثلين لحركة "حماس"، وهو ما دفع الفلسطينيين لرفضه على الفور. وعليه فمن الواضح أن جورج ميتشل، مبعوث الرئيس أوباما الخاص لمنطقة الشرق الأوسط، والسيناتور السابق، سوف يواجه تحديات كبيرة للغاية في التوفيق بين كل هذه التناقضات والخلافات في وجهات نظر الطرفين المتنازعين، ما لم يمارس أوباما مزيداً من الضغوط على كلا الطرفين. وهذا ما يعيدنا ثانية إلى المسألة الإيرانية. فعلى أوباما في الوقت الحالي أن يسلط اهتمامه على طهران، لاسيما أن التطورات الأخيرة التي شهدتها عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية، ربما تكون لها تداعياتها وتأثيراتها على كافة القضايا الرئيسية الجارية في الشرق الأوسط. وكما تابعنا، فقد أسفر الإعلان عن فوز الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد بهذه الانتخابات، عن أعمال شغب وفوضى واحتجاجات شعبية واسعة، دفعت بدورها إلى ما يبدو تراجعاً من قبل على خامنئي عن موقفه السابق المؤيد لإعادة انتخاب نجاد في بادئ الأمر. وبسبب تصاعد المظاهرات الشعبية التي عمت العاصمة طهران، بمشاركة مئات الآلاف من المحتجين على نتائج الانتخابات، فقد تزايد قلق المتربعين على سدة الحكم على شرعيتهم. وفي المقابل يلاحظ تحفظ كل من الولايات المتحدة الأميركية وبقية الدول الغربية على التعليق حول ما يجري في طهران، مخافة اتهامها بالتدخل في سياسات إيران وشؤونها الداخلية، وهو تحفظ ينم عن قدر كبير من الحكمة والكياسة فيما يبدو. هنا نعود تارة أخرى إلى نتانياهو ومناوراته المتوقعة مع واشنطن. فبعد أن أعلن موافقته على قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، فإن المتوقع منه أن يعود قريباً في زيارة أخرى إلى واشنطن، ليمارس الضغط من ناحيته هو على أوباما، كي يحثه على إعادة وضع ملف إيران النووي في مقدمة أولويات واشنطن واستراتيجية سياساتها الخارجية الجديدة. ذلك أن حكومة نتانياهو تؤمن -مثلما يشاطرها صقور إسرائيل اليمينيون الاعتقاد نفسه- بأنه وما لم يتم اتخاذ إجراء حاسم يستهدف وضع حد نهائي لبرامج إيران وتطلعاتها النووية في أقرب وقت ممكن، فإن الوقت سوف يكون قد تأخر كثيراً للحؤول دون حصول طهران على كافة العناصر والمكونات اللازمة لصنع قنبلتها النووية. وبصرف النظر عن النتيجة النهائية التي سوف تستقر عليها الانتخابات الإيرانية الأخيرة، أي بصرف النظر عمن تنصبه طهران رئيساً لها، فإن الاحتمال الأكبر أن تواصل واشنطن مساعي تفاوضها المباشر معها. وعندها سوف يكون للإيرانيين تقرير ما يريدونه. وفي المقابل، فسوف تتيح تلك الفرصة للرئيس أوباما وحلفائه الأوروبيين اتخاذ إجراءات أكثر حزماً وشدة تجاه طهران في حال تمسكها بموقفها المتشدد من استمرار العمل في تطوير برامجها النووية ومواصلة تخصيبها لليورانيوم.