سُئل المشير عبدالرحمن سوار الذهب، قائد عام القوات المسلحة السودانية خلال حكم جعفر نميري، عن ملابسات القرار الذي اتخذه بإقصاء الرئيس عن الحكم، رغم ولائه هو وقيادات الجيش لنميري، فقال: عندما دعونا لمظاهرة هادرة لإبراز شعبيته، اتضح العكس، حيث جاءت هزيلة بعدد قليل جداً من الناس، فعرفنا في قيادة الجيش أن الشعب يريد تغيير نميري، فإنحاز الجيش للشعب. لكن ماذا كان سيحدث لو نزلت جماهير غفيرة في ذلك اليوم إلى الشارع وهتفت باسم نميري؟ وماذا كان سيحصل لو خرج ألف شخص موالون حقيقيون لنميري، وهو عدد هزيل، لكن تبعهم عشرة آلاف فضولي لا يعنيهم سوى متابعة ما يحدث لتكون مادة حديثهم في سهرة المقهى، وتفاجأ آلاف غيرهم بحجم المشاركة "الجماهيرية"، فزحفوا خلفهم من باب "حشر مع الناس عيد"، فخرجت الألوف المؤلفة ممن كانت تتوقع أن شعبية نميري في الحضيض، ورأت بأم عينها أن الرجل لا يزال محبوباً؟ الذي كان سيحدث هو نجاح المظاهرة في تحقيق أهدافها، وتأكد قادة الجيش من شعبية الرئيس، وبقاء نميري رئيساً لفترة أطول، ولا أحد يعلم ماذا كان سيحدث بعدها في السودان والمنطقة كلها. كلام سوار الذهب يعد حجة على الشعوب التي تعتقد أنها مسلوبة الإرادة ومغيّبة تماماً عن الشأن العام، بل وحجة على كل فرد منهم يحسب نفسه جرماً صغيراً لا وزن له، ولا يدري أن فيه انطوى العالم الأكبر، أي المزاج العام والإرادة الشعبية التي تفرض نفسها وإن طال المدى. فإذا كانت السلطة تُتداول في الأنظمة الديمقراطية عبر صناديق الاقتراع، ويشعر الفرد فيها أن صوته محترم ومؤثر، فإن الوضع لا يختلف كثيراً في الأنظمة غير الديمقراطية أو الأنظمة التي تتشبّه بالأنظمة الديمقراطية في الظاهر والصورة عبر الانتخابات الهزلية وصناديق الاقتراع الشكلية، حيث تُعلن النتائج المحددة سلفاً في الوقت الذي لا تزال فيه صناديق الاقتراع مقفلة تهرسها الجرافات في أكوام النفايات. في مثل هذه الحالات، أي في حالة الأنظمة غير الديمقراطية أو أنظمة الصناديق المهروسة، فإن كل فرد من أفراد الشعب يمكنه أن يساهم في إضفاء الشرعية على النظام الحاكم، وبالتالي في استمراره، أو نزع الشرعية عنه وإزاحته، وذلك بألف طريقة وطريقة، ومن دون الحاجة إلى الصناديق. ويبقى الفارق بين التعبير من خلال الصناديق والتعبير البدائي أو العفوي أو غير المعترف به قانوناً، في أن التعبير من خلال الصناديق له وقت معلوم ومحدد، ونتائجه تظهر بعد فتح الصناديق وفرز الأصوات مباشرة، ويحصل كل هذا بسلاسة ومن دون الحاجة إلى استخدام القوة لتفعيل النتائج على أرض الواقع. بينما في الحالة الثانية، خصوصاً إذا اتجهت إرادة الناس إلى التغيير، فإن الوقت مفتوح، وليس هناك شيء محدد، والمفاعيل تأتي بطيئة وبالتدريج، ومفاجئة في العادة، وفي نهاية المطاف لابد من استخدام بعض القوة أو كلها لفرض الإرادة الشعبية. من أشكال التعبير البدائي والعفوي، والمؤثّر على المدى الطويل، والذي يمتلكه كل فرد من أفراد الشعب، ولا تمكن مصادرته في الغالب، وسواء هنا التعبير بالحب والوفاء والولاء، أو العكس، هو الخروج في مظاهرات التأييد أو التنديد، وتسجيل الموافقة أو الاعتراض عبر التلويحة والكلمة، وحتى نظرة الرضا أو السخط الخاطفة. وفي كلمة واحدة: قرار بقاء أو رحيل أي حكومة، هو قرار الشعب عبر الصناديق أو من دونها، وهو الذي يجني ثمار قراره الصائب، أو يتجرّع آلام قراره الخاطئ.