بين حصاد بوش وزرع أوباما
كان خطاب الرئيس الأميركي باراك حسين أوباما، خطاباً سياسياً مختلفاً بكل المقاييس عن معهود الخطابة والسياسة الأميركيتين. وهو بالفعل مختلف عن جميع الرؤساء الثلاثة والأربعين الذين سبقوه في منصبه بكونه أول رئيس غير أبيض، ومن خلفية تمزج بين العرقين الأبيض والأسود، زيادة على خلفيته العائلية المسلمة عن طريق والده الكيني المسلم الأسود، وإخوته وأقربائه المسلمين المنتشرين في كينيا وإندونيسيا. وهو مختلف أيضاً بحكم احتكاكه المبكر مع الدين الإسلامي، وعيشه خارج أميركا منذ صغره وخاصة في إندونيسيا، وبسبب رؤيته ونظرته الواقعية ومقاربته المستنيرة لمختلف القضايا في السياسة الخارجية. ونحن العرب والمسلمين على رغم إصرار أوباما على أنه مسيحي، ما زلنا نُصر أيضاً على وجود مؤثرات من والده حسين ومن الإسلام في داخله وفي فكره وفي رؤاه، فيما يجهد خصومه في بلده للتأكيد على انحيازه للإسلام، وبأنه مسلم.
وفي كل الأحوال فقد أوفى أوباما بوعد قطعه على نفسه إبان حملته الانتخابية حين تعهد بمخاطبة المليار ونصف مليار مسلم، المنتشرين في العالم الإسلامي وفي قارات العالم الخمس، في الأشهر الأولى من حكمه. وعلى خلفية هذا الوعد أتى خطابه في القاهرة، الذي وصفه البعض بالتاريخي، بينما وصفه قلة آخرون بـ"الإنشائي" و"المعسول والمنسق" وبأنه "بياع كلام". لكن الخطاب من حيث الشكل والمضمون والأسلوب شكّل نقطة تحوّل جذرية وأساسية في مقاربة الإدارة الأميركية لحزمة من القضايا بالغة الأهمية، أو كما سماها أوباما "التحديات السبعة" القائمة مع العالم الإسلامي، مؤكداً أن المطلوب هو العمل سوياً لحلها بروح الانطلاق من "بداية جديدة تعتمد على التعاون والاحترام". وقد عدَّد أوباما في خطابه تلك التحديات السبعة بشكل متسلسل وبحسب الأولوية، وهي: التطرف العنيف، والصراع العربي/ الإسرائيلي، والسلاح النووي، والديمقراطية، والمساواة للمرأة، والحرية الدينية والتسامح الديني، وأخيراً التنمية الاقتصادية، مع قضايا وتحديات أخرى.
وأقل ما يمكن قوله هو أن خطاب أوباما نسف كلياً مواقف بوش المتطرفة والمؤدلجة النابعة من فكر وخطاب "المحافظين الجدد"، التي تركت إرثاً وحصاداً كارثياً على المنطقة وعلى نظرة العالم الإسلامي تجاه أميركا، ومرّغت سمعتها التي فقدت مصداقيتها وشعبيتها عبر مواقف منحازة وصدع مزلزل وخطب عنجهية وسياسات حدية "معنا أو ضدنا" وعبارات خرقاء مثل الحديث عن "الإسلام الفاشي" و"الحملة الصليبية"، و"جميع الخيارات مطروحة على الطاولة" و"محور الشر" و"الحروب الاستباقية"، هذا إضافة طبعاً إلى ممارسات سيئة مثل ما جرى في سجون أبوغريب وغوانتانامو وباغرام، واحتلال بلدين مسلمين دفعة واحدة، هما العراق وأفغانستان. ومع أن أوباما يرى أن منطقة أفغانستان- باكستان، ما زالت تشكل الجبهة الرئيسية في الحرب ضد الإرهاب و"القاعدة" إلا أنه ينطلق في ذلك من موقف الحرب الضرورية لمواجهة التطرف، بدعم من المسلمين والعالم الإسلامي.
ونظراً لسياساته المختلفة فإن التغيرات في نظرة العالمين العربي والإسلامي تجاه أميركا، خلال الأشهر الخمسة الأولى من إدارة أوباما، كبيرة وسريعة وعميقة، وكفيلة بتحسين هذه النظرة، والخروج بصورة بلاده من دركات الحطام الذي تركه بوش إلى آفاق الأمل والقبول. وقد بدأت بالفعل شعبيتها والنظرة إليها تتحولان إلى خانة الإيجابية. وإذا أردنا أن نختصر عمق هذا التغيير، فقد يكون مفيداً هنا المقارنة بين توديع بوش في زيارته الأخيرة للمنطقة بحذاء الصحافي منتظر الزيدي في بغداد انتقاماً لكرامة ومآسي العراقيين والعرب، مقارنة بمقاطعة أوباما أكثر من أربعين مرة بالوقوف والتصفيق الحار في خطابه المهم في القاهرة، في زيارته الأولى للمنطقة. فكم تغيرت الصورة في فترة قصيرة!
والراهن أن أوباما أتى إلينا بيد ممدودة وقلب مفتوح. أتى إلينا للمصالحة وليفتح معنا صفحة جديدة ويعبر عن الاحترام والتقدير. وقد بدأ خطابه بـ"السلام عليكم" وختمه قائلا "شكراً". واستشهد أربع مرات بآيات من القرآن الكريم. ولم يغفل في خطابه أياً من قضايا وتحديات ومشاكل المنطقة من العراق إلى أفغانستان، ومن الصراع العربي/ الإسرائيلي إلى ملف إيران النووي، إلى حزمة قضايا مبدئية وثقافية وسياسية أخرى عديدة من الديمقراطية والحريات إلى حقوق المرأة والحريات الدينية والتطوير الاقتصادي. ولم يتفوّه بعبارات مثل "الإرهاب" والمنظمات "الإرهابية"، ولم يهدد ويتوعد، بل ابتعد عن لغة الاتهام والتشكيك والتخوين، واعترف بعظمة ومحورية الإسلام الذي يرفض العنف، وفرّق بين القلة من المسلمين التي تستخدم العنف وسيلة وبين الأغلبية الساحقة من المسلمين التي ترفض العنف وتشجبه تعلقاً بروح الإسلام الحق وقيم السلام.
كما اعترف أوباما بثقل الماضي الاستعماري الكولونيالي الغربي، واستخدام شعوب ودماء المنطقة بيادق في الحرب الباردة بين المعسكرين على حساب الشعوب وتطلعاتها. وفي اعتراف غير مسبوق من رئيس أميركي أيضاً رفع غصن زيتون للإيرانيين، واعترف بالدور الأميركي في الإطاحة بحكومة محمد مصدق في الخمسينيات، التي تمثل مظلمة إيرانية تجاه واشنطن. كما اعترف بأن حرب العراق كانت حرب اختيار وبأنها تثير مشاعر متعددة. وأكد على ضرورة حل الدولتين في الصراع العربي/ الإسرائيلي، وتحدث عن "المعاناة التي لا تُحتمل للفلسطينيين"، كما أكد على إسرائيل طالباً منها وقف بناء المستوطنات. وأقر بأن القدس يجب أن تكون مدينة مفتوحة لجميع "أبناء إبراهيم"، عليه السلام.
ولكن الخطاب مع واقعيته وأهميته ولغة التغيير واللهجة المهادنة فيه، لم يكن مع ذلك مفصّلا، ولم يشكل اعتذاراً عن الماضي. وعلى رغم تأكيده على معاناة الفلسطينيين لكنه لم يتحدث عن طريقة رفع الظلم عنهم، ولا عن كيفية تمكينهم من نيل حقوقهم مثل شكل الدولة وحق العودة ورفع الحصار عن غزة، وكيفية التخلص من المستوطنات الموجودة. وعلى رغم تأكيده أيضاً على الانسحاب العسكري من بلاد الرافدين، إلا أنه لم يتحدث عن مضاعفات هذا الانسحاب على أمن العراق وجواره، وإمكانية إعادة النظر في مواعيده كما يطالب بذلك قادة عسكريون ومراكز دراسات أميركية رصينة. ومع حديثه عن الديمقراطية والحريات و"المحافظة على السلطة بالشرعية والقبول وليس بالإكراه"، إلا أنه لم يُوضح كيف يتحقق ذلك. كما لم يذكر في خطابه تواريخ معينة ولا آليات محددة لمتابعة مساعي إنجاز حل الدولتين، وما هي عواقب رفض إسرائيل لتجميد المستوطنات، وإصرار إيران على تخصيب اليورانيوم... الخ.
وتبقى مشكلة أوباما المحسوسة هي أن خطابه يحمل الكثير من المثاليات التي تصطدم بواقع خشونة السياسة والمواقف الأميركية التي تناقض تلك المثاليات، فخصوم أوباما في أميركا من المحافظين وبعض "الجمهوريين" انتقدوا خطابه ووصفوه بأنه ساذج، ويضعف أميركا. وخصومه في المنطقة الشرق أوسطية استبقوا وأعقبوا خطابه بالتشكيك في هذا التغيير، مؤكدين أن المطلوب هو الأفعال وليس الأقوال. وأما أوباما نفسه فيعترف بأن "خطاباً واحداً لا يمكن أن يغير عقوداً من العداء والكراهية"، خاصة بعد حصاد وسنوات بوش المرة. ولكن الخطاب يبقى، على رغم هؤلاء وأولئك، بداية جيدة نأمل أن يتم استثمارها من جميع الأطراف المعنية، وخاصة أن وجود شخصية واقعية مثل أوباما في موقع القيادة الأميركية يعد فرصة سياسية لا ينبغي أن تضيع.
غير أن العبء الأكبر في تسوية مشاكل المنطقة يبقى على أميركا، الممسكة بأوراق القوة والثقل في المنطقة، إذ عليها أن تفعّل ما ورد في الخطاب كخريطة طريق جدية للعمل. ولكن هذا لا ينفي أيضاً، في المقابل، مسؤوليتنا نحن كعرب ومسلمين في المنطقة في تسهيل انفراج أطواق الأزمات والصراعات والاحتقانات التي تمور في منطقتنا من أفغانستان وباكستان إلى العراق وفلسطين ولبنان... الخ. وبذات الدرجة تقع مسؤولية تسهيل المهمة على اليهود وحكومة نتانياهو، وعلى الإيرانيين، والآخرين من دول وغير دول، حتى يتمكن الخطاب من تحقيق غاياته، ويؤتي، استطراداً، ما زرع من نوايا ومواقف طيبة حصاداً مثمراً للجميع.