المحيط الهادئ... تركة أميركا المنسية
في كل مرة تحتاج فيها الشراكة الأطلسية إلى إنعاش وتنشيط، يلجأ الرؤساء الأميركيون إلى دبلوماسيينا الحجريين الصامتين: النصب التذكارية العسكرية الأميركية الـ36 الموجودة في أوروبا. ويوم أمس، السبت، الذي يصادف الذكرى الخامسة والستين لإنزال الحلفاء على شواطئ النورماندي الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية، خاطب أوباما الحلفاء الأوروبيين أمام ذات معالم ونُصب النورماندي التي وجّه أمامها ريجان الخطاب الذي ألقاه خلال فترة الحرب الباردة عام 1984، ورفع فيه سقف التحدي الكبير إزاء الاتحاد السوفييتي السابق.
ولكن سحر "الحرب الجيدة" هذا يظل ظاهرةً أوروبية بلا منازع -سواء تعلق الأمر بيوم الإنزال أو بأي إحياء آخر لذكرى من ذكريات زمن الحرب- إلا أن الرهان يبقى بعيداً عن الحدود القديمة للحرب الباردة، بل يتركز هناك حيث تقع ساحات المعارك التي خاضتها أميركا في المحيط الهادي على هامش حسابات القوى العظمى الجيوسياسية. والحال أن عدم الاهتمام بتركة الحرب العالمية الثانية -التي قد تشكل قاعدة قوية لالتزام مستقبلي- يمثل خطأ استراتيجياً فادحاً لأنه بينما يتطور المحيط الهادئ ويتحول من "بحيرة" أميركية آمنة إلى ساحة لعب جيوسياسية خطيرة، فإن فهم وتقدير تضحيات الحرب العالمية الثانية هناك قد يرجِّح إحدى كفتي الميزان في المستقبل لصالح السلام على الحرب. وزيادة على ذلك لم يتبق اليوم الكثير من الوقت لاستحضار تركة "الحرب الجيدة". فقد بات وجود الولايات المتحدة المفيد خلال مرحلة ما بعد الحرب، وهذا أمر كان معروفاً في وقت من الأوقات لدى جميع سكان جزر المحيط الهادئ تقريباً، أشبه بالأسطورة التي يرويها المسنون للصغار. ولم يعد أحد يتذكر ذكرى الحرب التي ساعدت على خلق دول جديدة، حتى من بين المستفيدين المباشرين: أي الجزر- الدول الديمقراطية الفتية الـ14 المتناثرة عبر المحيط.
والحقيقة أن الأمر لم يكن دائماً على هذا النحو حيث كان من الممكن على مدى عقود بعد الحرب العالمية الثانية الاعتماد على قدماء المحاربين في تلك البلدان للحفاظ على إرثهم الخاص. ففي 1988 على سبيل المثال، أنقذ الناجون في "تاراوا"، التي تعد واحدة من أكثر المعارك الأميركية شراسة خلال الحرب العالمية الثانية، موقع النصب التذكاري لمعركتهم. وفي المقابل فإن موقع معركة الشاطئ الأحمر، حيث مات الكثيرون، بات مرتعا للقمامة والنفايات بعد أن طواه الإهمال والنسيان.
ومع أنه لم يبق محاربون قدامى كثيرون للدفاع عن تاريخهم وذكراهم، ولذا فإن مهمة الدفاع عن الإرث الأميركي الآخذ في الاندثار في "تاراوا" باتت اليوم من مسؤولية ليون كوبر، وهو محارب قديم في التاسعة والثمانين من عمره، وقد اتخذ موضوع فيلم وثائقي هذا العام يسلط الضوء على جهوده.
وحتى المعالم التاريخية الحية وذكريات الناس -سكان الجزر الذين خدموا الولايات المتحدة في يوم من الأيام- لم تسلم هي أيضاً من الإهمال. وإليكم حالة إيروني كومانا، على سبيل المثال، وهو أحد سكان جزر سليمان الأصليين وكان حارس شاطئ وراء الخطوط اليابانية، ساعد على إنقاذ "جون إيف. كينيدي"، الرئيس الأميركي فيما بعد، بعد غرق مركبه في 1943. وإذا كان كينيدي قد دعا "كومانا" لحضور حفل تنصيبه (وإن لم يستطع الحضور)، إلا أن ذلك البطل اضطر للانتظار 64 عاماً قبل أن تكلف واشنطن نفسها عناء الإعراب رسمياً له عن الشكر. غير أنه في الوقت الذي سلَّم فيه وزير البحرية دونالد وينتر الكشافَ الأميركي العجوز علماً وبعض الأشياء التافهة ليزين بها صدره في 2007، كان "كومانا" يعاني الصمم وضيق ذات اليد، وكان منزله الصغير قد دُمر عن آخره بسبب الزلزال الذي ضرب الجزيرة. وفي ظل عدم توفر مال حكومي أميركي، لجأ طاقم السفينة الهجومية الأميركية "بيليليو" إلى جمع التبرعات والمساهمات لتخليد ذكرياته. غير أن هذه ليست طريقة للاعتناء بإرث عظيم.
وفي عالم اليوم الذي اختزلت فيه الإنترنت المسافات وحيث لا يبعد التاريخ سوى ببضع نقرات، يغدو من السهل نسيان فائدة النصب التذكارية ومقابر الجنود الذين سقطوا في المعارك والتحصينات المهمَلة. والحال أن النصب التذكارية المصقولة وقديمة الطراز في المحيط الهادئ هي واحدة من الطرق القليلة التي تستطيع ربط سكان الجزر العاديين بالولايات المتحدة. وعلاوة على ذلك، فعلى رغم حقيقة أن أقل من 2 في المئة فقط من سكان جزر سليمان يتوفرون على إمكانية استعمال الإنترنت، إلا أن الحضور الدبلوماسي الأميركي تقلص إلى سفارة إنترنت "افتراضية"؛ والحال أنه في هذه المناطق غير المترابطة يستطيع بعض الدبلوماسيين المصنوعين من صخور الجرانيت إثبات أنهم استثمار أفضل على المدى البعيد مقارنةً بوسيلة تكنولوجية لا أحد يستعملها.
ومع تراجع نفوذ وتأثير الولايات المتحدة في المحيط الهادئ، من المفيد التذكير بأن الوقت لا ينتظر أحداً. فخلال السنوات الخمس المقبلة، وبينما تجهد الولايات المتحدة من أجل تمويل قوات بحرية آخذة في التقلص وتعاني من كثرة المهام، فإن روسيا والصين واليابان وكوريا الجنوبية وبلداناً آسيوية أخرى تستعد لاستثمار أكثر من 60 مليار دولار في سباق تسلح بحري عبر المنطقة. ولكن عندما تبدأ القوات البحرية الجديدة لهذه البلدان، إضافة إلى أطقم من الدبلوماسيين البشر النشطاء المدرَّبين والمموَّلين بشكل جيد، التحرك في المحيط الهادئ للعمل على حل المشاكل البيئية والإثنية والسياسية الآخذة في التفاقم، فإن الأوان سيكون قد فات بالنسبة للولايات المتحدة لتبدأ في استحضار تضحيات الماضي، في ذلك الجزء من العالم.
-------
كريج هوبر
خبير استراتيجي أميركي ومحاضر متخصص في شؤون الأمن القومي بالكلية البحرية في مونتري بكاليفورنيا
---------
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"