بعيداً عن حسابات المكسب والخسارة، وتجاوزاً لمحتوى الاتفاقيات والبروتوكولات الإسرائيلية- الفلسطينية التي يصعب حصرها منذ مؤتمر مدريد 1991 حتى الآن، والتي لم تنفذ منها إسرائيل سوى ما يقل عن 30 في المئة مما جرى الاتفاق عليه، يكون السؤال الملحّ في طرحنا لأسباب ذلك كله وربما ما سيحدث في المستقبل القريب بعد أن عاد نتانياهو ليصبح طرفاً أساسياً في المفاوضات، هل سيكون "التفاوض من أجل التفاوض" هو عنوان المرحلة؟ إن الأيديولوجيا الإسرائيلية تجاه السلام، خاصة مع الفلسطينيين، تنطلق من ثوابت يصعب، بل ربما يستحيل تغييرها، ومن يحاول من الصهاينة ذلك فإنه مهدد دائماً بمصير رابين، لذلك فإن من يعتقد أن ما حدث حتى الآن قد أصبح في ذمة التاريخ فإنه على خطأ، ومن ينتظر تغييرات جذرية في الموقف الإسرائيلي في الحاضر أو المستقبل فهو حالم. لقد أكدت المتاهة الإسرائيلية للمفاوضات، وما ترتب عليها من لوحة "الكلمات المتقاطعة"، حقيقة عدم تنازل أو تخلِّي أي من رؤساء الحكومة الإسرائيليين عن موقفه المتعنت من التزام السلام، وكذلك فعلها نتانياهو في فترة رئاسته السابقة للحكومة، ولا يوجد ما يمنعه من تكرارها في الوقت الراهن أو في المستقبل، من حيث عدم التخلِّي عن حلم أرض إسرائيل التوراتية وفق المفهوم الصهيوني لها، من النيل إلى الفرات. فبعد تسويف لنحو عقدين من الزمن جرت خلالهما مفاوضات عقيمة وتسويف ومماطلة، يصل الفلسطينيون إلى سراب، ويكون الاتفاق عادة بلا اتفاق، وذلك لسبب بسيط جداً وهو أن أي اتفاق يعج بالكثير من التفاصيل والسلبيات التي تكمن فيها الثغرات ومخارج الهرب من التزام التنفيذ، علاوة على إرجاء أهم نقاط التفاوض إلى مرحلة لاحقة، ودائماً ما يكون هناك "مسمار جحا" وهو الاستيطان الذي يجر معه الجميع إلى منحى آخر بعيداً عن التوجه الرئيسي. وهنا علينا أن نتذكر ما فعله نتانياهو في مفاوضات الخليل في مارس 1997، لنعي الدرس وتكون رؤيتنا للمستقبل أوضح وأعمق مما هي عليه الآن، فقد ترك حينها 20 ألف فلسطيني رهينة بيد 400 مستوطن يهودي، بما يعني تكريس الاستيطان في هذه المنطقة وجعلها معرّضة للانفجار في أي وقت، كما تم تأجيل الانتشار إلى عام 1999 ما أعطى نتانياهو مساحة زمنية كافية لاستكمال تنفيذ مشروعات الاستيطان المقررة في المنطقة، وظل "الحرم الإبراهيمي" في القبضة الإسرائيلية، وتم تأجيل مناقشة قضايا حيوية وحاسمة تزيد على 34 موضوعاً إلى مراحل لاحقة. فماذا كان يعني ذلك كله؟ إنه إجهاض لمبدأ "الأرض مقابل السلام"، وكذلك اقتراح "حل الدولتين"، من خلال قيام الطرف الإسرائيلي في المفاوضات بطرح عنصر بسيط في مضمونه ولكنه عميق في محتواه وآثاره. وعادة ما تُضاف بعض البنود الجديدة الفرعية إلى أجندة التفاوض ومن ثم يتم التحكم بصورة غير مباشرة في الوقت الذي تستغرقه ديناميكية إدارة المفاوضات للتوصل إلى اتفاق على هذه البنود، ومن ثم يكون هناك سبب مبرر للتسويف والمماطلة وبالتالي تزداد مدة احتفاظ إسرائيل بالأراضي الفلسطينية، وما يترتب على ذلك من فرض للأمر الواقع وطرح أبعاد جديدة للمشكلة يصعب تغييرها وتتطلب مفاوضات جديدة لحلها. لذا فإن ما يطلبه نتانياهو اليوم تحت عنوان التفاوض لإحلال السلام إنما يحمل في طياته عناصر التسويف وفرض الأمر الواقع، فالدعوة إلى الاعتراف أولا بيهودية الدولة الإسرائيلية، وعدم القبول بقيام دولتين، وربط المسألة الفلسطينية بالتعامل مع التوجه النووي الإيراني، كلها أمور تحتاج إلى مفاوضات شاقة من جميع الأطراف للتوصل إلى حل بشأنها، في حين أن القضايا الرئيسية محل التفاوض، ستظل مؤجلة بلا حل، فإذا أضفنا إليها الانقسام الفلسطيني كحجة في يد إسرائيل، سنصل إلى نتيجة حتمية مفادها عدم جدية إسرائيل في طلب السلام الشامل والدائم والعادل من خلال إدارة المفاوضات مع العرب. وستكون الإجابة أن النمط الإسرائيلي في إدارة المفاوضات يجري بهدف وحيد هو التفاوض المستمر تحت شعار سعي إسرائيل إلى السلام، بينما تقوم في الوقت نفسه بتنفيذ مخططاتها الاستيطانية والحصار الخانق على الفلسطينيين لدفعهم إلى الاستسلام. وإذا أردنا إدراك حقيقة الرؤية الاستراتيجية الإسرائيلية عن قرب في المفاوضات التي تتحول عادة إلى مناقشات حول تقسيم الحواري والشوارع وساحات الانتظار والمنازل وتوزيع المستوطنات وفكها وتركيبها والتنقل العشوائي للمستوطنين... نتذكر حكاية الرجل الغني صاحب السلطان والجاه مع الشاب الفقير المغلوب على أمره الذي تجرأ وتقدم لخطبة ابنته، فقد أراد أن يتخلص منه دون أن يغضب الابنة المحبة المقربة لقلب الوالد، فاشترط عليه أن يجيب على أسئلة ثلاثة: الأول عن عاصمة الصين، والثاني عن عدد سكان العاصمة، وبعد أن أجابه الشاب عن هذين السؤالين بفرح شديد ولهفة أشد، طرح الأب السؤال الثالث وهو أن يوافيه الشاب بأسماء الملايين العشرة، سكان العاصمة الصينية بكين، وعناوينهم وأرقام هواتفهم الثابتة والمحمولة! والمعنى هنا واضح بأن هدف التفاوض هو عدم التوصل إلى أي حل، ومن ثم يبرز التشابه الدقيق بشأن المفاوضات الإسرائيلية بحيث لا تغضب ماما أميركا، لذا فهي تعني في جوهرها طرح مسألة حسابية لها درجة تعقيد حسابي معين ثم يطلب من الطرف الآخر حلها، بحيث ترتبط درجة التعقيد بالوقت اللازم للحل. وحتى نزيد الصورة وضوحاً، نشير إلى أن درجة التعقيد الحسابي أصلا تعتمد على عدد من الإشكاليات الرياضية، وكلما زادت أبعاد هذه الإشكاليات زادت درجة تعقيد المسألة، ومن ثم يزداد الوقت اللازم لحلها، ويسمي علماء الرياضيات هذه الظاهرة بـ"لعنة البعد" أو "اللعنة البعدية"، وهناك إشكاليات يتناسب الوقت اللازم لحلها تناسباً بسيطاً (خطياً) مع عدد المتغيرات المؤثرة فيها، بينما تكون العلاقة أكثر تعقيداً في إشكاليات أخرى (غير خطية) ومن ثم نجد أن الإشكاليات التي يكون فيها تناسب عامل الوقت مع عدد الأبعاد أو المتغيرات متضاعفاً تصبح معضلة مستعصية على الحل في الزمن المنظور حتى لو كانت المتغيرات محدودة العدد. ولو طبقنا ذلك على ما يطرحه نتانياهو اليوم من إشكاليات بسيطة ومحدودة من خلال التفاوض أو حتى قبل أن يبدأ، نجده يثير معضلة حسابية في زمن الحل وآليات الحساب المتاحة، وفي عدد الأطراف المتداخلة فيه. فإذا كان بعضهم يعتقد أن الاعتراف بيهودية الدولة مسألة تحصيل حاصل، فإن المتعمق فيها يجد أنها ستكون دولة عنصرية أولا ومتطرفة ثانياً لأنها لا تقبل بوجود أي ديانة أخرى، وسوف تقوم ثالثاً بتطهير سكانها من غير اليهود، لذلك فإضافة هذه المسألة تعني الدخول في معضلة جديدة ليس لها نهاية. كما أن الرفض الإسرائيلي المبدئي لإقامة الدولتين يثير متوالية رياضية من الإشكاليات التي لا تنتهي، ليس أقلها عدم الاعتراف أو القبول بوجود دولة فلسطينية، ولكنها تعني في جوهرها أنه لا يوجد هدف نهائي من المفاوضات الإسرائيلية مع الفلسطينيين يضع حداً لكل نقاط الخلاف حول القدس والمياه واللاجئين والأرض ووضع الفلسطينيين والحدود ومستقبل الاحتلال... إلخ. لذلك يجب على وفود التفاوض الفلسطينية والعربية أن تحذر من أي طرح لبند جديد للتفاوض أو حتى للنقاش أو لأي إضافة أو تعديل للمشروعات التي يجري التفاوض بشأنها، لأنه يفتح الباب على مصراعيه لحلقة مفرغة ولا نهائية للحل في ظل الوقت المتاح للتوصل إلى نتائج ملموسة، فإسرائيل سوف تعلن وتقسم بأنها في سبيلها للتوصل إلى حل وأنها مصرّة على تحقيق السلام، بينما واقع الأمر لا يسمح بذلك ويضع المفاوض العربي في مأزق المعضلة الحسابية. من المؤكد أن طريق التفاوض شاق وطويل ويتطلب إعداداً نفسياً ومعرفياً للقائمين عليه، ولكن يلزم في الوقت نفسه كشف أبعاد أي موقف إسرائيلي جديد مهما كان بسيطاً أمام الرأي العام العالمي بل والإسرائيلي حتى تدفع الحكومة الإسرائيلية ثمن تهرّبها من السلام، بحيث لا تحل بالمفاوضين العرب "اللعنة البعدية" ويصبحوا فريسة لمصيدة الوقت تحت مسمى السلام الفارغ، ومبادرة السلام العربية قد مر على طرحها أكثر من سبع سنوات وما زلنا في الانتظار!