جهات أجنبية كثيرة تخطط، بل وتعلن في أحيان كثيرة، هذه الخطط على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي بأسره، ومنها مشروعات كثيرة للمنطقة العربية، بهدف تشكيل حاضر هذه المنطقة وصياغة مستقبلها بما يتوافق مع المصالح الاستراتيجية لهذه الجهات دون أدنى اعتبار لمصالح دول المنطقة وحاجاتها الأمنية والاقتصادية والسياسية. بعض هذه المشروعات جارٍ تنفيذه بخطى حثيثة ومتسارعة مثل المشروعين الفارسي والصهيوني، وبعضها الآخر يجري تنفيذه على نار هادئة مثل مشروعي "الشرق الأوسط الكبير" و"الشرق الأوسط الجديد"، وبعضها لا يزال في طور الولادة المتعثرة مثل مشروعات الاتحاد الأوروبي للشراكة والتعاون المتوسطي والخليجي. لذلك فإن السؤال الذي يلحّ بشدة الآن؛ ومنذ مدة من الزمن أيضاً، هل لدى العرب مشروع حضاري؟ وهو سؤال محيّر، والإجابة عنه أكثر حيرة. فإذا كانت الإجابة بـ"نعم"، فما هو هذا المشروع؟ وما هي مدة تنفيذه؟ ومن المسؤول عن التخطيط له ومتابعته ليتحقق على أرض الواقع؟ وما هي الآليات والقوى المحركة والقدرات والإمكانات المسخّرة لتنفيذه؟ وما هي فرص نجاحه والتحديات والمخاطر المتربصة به وكيفية التغلب عليها؟ وإذا كانت الإجابة بـ"لا"، أي أن العرب ليس لديهم مشروع حضاري، فما هو السبب في ذلك؟ ومن المسؤول عنه؟ ولماذا؟ وإلى متى سنظل الطرف المفعول به وليس الطرف الفاعل؟ ولماذا نفتقد المبادرة دائماً ونسلم بها سلفاً للآخرين؟ وهل ستظل المصالح الحيوية والاستراتيجية العربية مستباحة؟ ثم ماذا ننتظر؟ أسئلة كثيرة وغيرها تتدفق مثل "إعصار تسونامي" على العقل والذاكرة للبحث عن سبب عدم اكتراث العرب بمستقبلهم، وكأنه قد كتب عليهم أن يكون يومهم مثل أمسهم وغدهم لا يختلف كثيراً عن يومهم! يسيرون في ظلمة المجهول فاقدي الاتجاه، ويطالبون غيرهم بإنارته وضبط اتجاه البوصلة. إن مراجعة سريعة للمؤشرات الحيوية العربية المعلنة والمنشورة في الوثائق العربية المعترف بها، مثل التقرير الاقتصادي العربي الموحد، تشير إلى التراجع والتدهور في كل شيء، حيث يشكل الناتج القومي الإجمالي للدول العربية نحو 2.61 في المئة من إجمالي الناتج العالمي عام 2008، في حين أن نسبة السكان العرب تصل إلى 4.9 في المئة من إجمالي سكان العالم، ما يعني عدم التناسب بين حجم الإنتاج وعدد السكان ويدل بوضوح وصدق على مدى ضعف طاقة التصنيع العربي، كما لا يتناسب مع مساحة الوطن العربي التي تمثل 5.1 في المئة من مساحة اليابسة على سطح الكرة الأرضية، ونحو 10.2 في المئة من إجمالي مساحة العالم، ما يؤكد ضعف توظيف الموارد الطبيعية التي يمتلكها العرب، والتي تعتمد فقط على مورد طبيعي وحيد للدخل، حيث تمثل احتياطيات النفط المؤكدة نحو 50.3 في المئة من إجمالي الاحتياطيات النفطية التي يملكها العالم، ويمثل احتياطي الغاز 29.1 في المئة من إجمالي الاحتياطيات العالمية، أما نسبة إنتاج النفط الخام فتمثل 13.8 في المئة من الإنتاج العالمي، والغاز الطبيعي العربي المسوّق يمثل 13.6 في المئة من نظيره على المستوى العالم، وتصل نسبة الصادرات العربية إلى الصادرات العالمية 5.7 في المئة، أما الواردات فتصل نسبتها من إجمالي الواردات العالمية إلى 3.5 في المئة، ونسبة التجارة البينية بين الدول العربية مقارنة بالتجارة الخارجية تبلغ 10.2 في المئة، أما نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي فتقدّر بنحو 26.1 في المئة، ويبلغ متوسط معدل التضخم في الدول العربية 5.6 في المئة عام 2007، في حين يبلغ في الدول المتقدمة 2.2 في المئة، ويبلغ متوسط البطالة في الدول العربية 14 في المئة من إجمالي عدد السكان، بينما المعدل العالمي لا يتعدى 8.4 في المئة، ويعيش أكثر من 39.7 في المئة من العرب تحت خط الفقر. أما عن معدلات القراءة والكتابة والإنتاج الأدبي والعلمي والترجمة والنشر وعدد براءات الاختراع وإنتاجية العامل العربي في اليوم، فإنه يصعب على النفس ذكرها، ليس لعدم توافر معلومات كافية عنها، ولكن لأنها تمثل صدمة للقارئ والكاتب معاً، ناهيك عن تراجع التعليم، بل إن بعض الدول التي يعود تاريخها إلى عدة قرون مضت من الزمن، لا تزال اليوم تدرس عملية تطوير التعليم وتبحث فيها! فضلا عن انتشار الأمية بمقاييس التطور التكنولوجي في الكومبيوتر والثورة المعلوماتية ونشر المعرفة، يضاف إلى ذلك تدهور مستوى الخدمات الصحية، وتراجع متوسط دخل الفرد، وتزايد مشكلات البحث عن سبل العيش الكريم، وقبل ذلك كله المستوى العربي في الرياضات العالمية، الذي يكتفي بالتهليل للإنجازات الفردية التي تأتي بالمصادفة أو المجهود الشخصي، دون تخطيط وطني أو عربي يتطلع لتحقيق الهدف. إن من أهم عناصر ومرتكزات المشروع الحضاري العربي "الاستثمار في رأس المال البشري"، فالثروات الطبيعية لن تدوم وأسواق المال والأسهم والبورصات العربية تحتاج إلى تنويع مصادر الدخل وزيادة معدلات الأداء والإنجاز والإنتاج وتطويره، وهذا كله يعتمد على البشر، وليست تجربة الصين والهند ببعيدة، وقد تغنى بها رئيس الدولة العظمى باراك أوباما، لذا فإن هناك حاجة ماسة لحسم مسألة تطوير التعليم أو إصلاحه لتوفير تعليم يتسم بأعلى مستويات الجودة، على أن تتوافق مخرجاته مع احتياجات سوق العمل سواء الحالية أو المستقبلية، وبما يضمن وجود نظم تستطيع أن تكشف المتفوق والموهوب والمبدع في أي مجال، وتمنحه فرصة تقدم الصفوف واعتلاء أعلى المناصب وتحقيق الامتياز في مجاله، ومن ثم سوف يتولى المناصب من يستحق لا من يملك. كما أن الاهتمام بالمنظومة الصحية وتوفير مستويات معيشة مناسبة وسليمة، يضمن تحقيق مقولة العقل السليم في الجسم السليم، ويحتاج إلى أنظمة سياسية واجتماعية واقتصادية تدعم المواطنة وتعزز الهوية الوطنية وتشجع الوطنية، وتتيح للمواطن ممارسة حقه الدستوري في صنع السياسة العامة، أي أن يقوم بواجباته مقابل حصوله على حقوقه، فمن غير المقبول أن تظل معظم الحكومات العربية تعامل شعوبها على أنهم لا يزالون دون سن الرشد ولم يبلغوا الحلم بعد. إن المشروع الحضاري يحتاج إلى جهود مكثفة من كل الفئات حكاماً ومحكومين، كما يجب ألا تعوقنا المشكلات السياسية التاريخية عن المضي قدماً في تنفيذ المشروع، وتظل الشمّاعة التي نحتمي بها من عجزنا عن الانطلاق إلى الغد، ويمكن أن يكون حلها جزءاً من الجانب السياسي للمشروع الحضاري، كما يجب ألا ننكر التطور الكبير الحادث في بعض دول الخليج العربية، خاصة دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية، فهما دولتان لديهما مشروعاتهما للمستقبل ويسيران وفق نهج واضح ورؤية متكاملة. أما الهدف الرئيسي المقترح للمشروع النهضوي الحضاري العربي فهو: "النهوض بالقوى الشاملة للوطن العربي من سياسية ودبلوماسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودفاعية لتصل إلى مصاف القوى الكبرى في مدة زمنية محددة، على أن تكرس الجهود الحكومية والمدنية كافة بإخلاص وتفان لتحقيق هذا الهدف، مع تعهد الجماهير العربية بتحمّل أي معاناة معنوية أو معيشية لضمان الوصول إليه". أما مكونات المشروع الحضاري العربي فهي كثيرة ولكن أهمها الآتي: الاتفاق على الحدين الأدنى والأعلى للمصالح العربية المشتركة، التي يلزم أخذها في الاعتبار عند تخطيط المشروع الحضاري، والمصارحة والشفافية في مواجهة الخلافات البينية بين الدول العربية، من خلال التجرد التام ووضع المصلحة العربية العليا والسعي إلى التقدم الحضاري قبل أي شيء آخر، والاتفاق على الخطوط الحمراء للأمنين الوطني والإقليمي التي يستحيل تجاوزها بما يضمن حماية المكتسبات العربية، ووضع الإطار العام للنهوض الاقتصادي في الدول العربية كافة، والاتفاق على أسلوب تحقيق التكامل التجاري وفي الاستثمارات البينية وفق خصائص كل دولة للاستفادة بأكبر قدر من ميزتها التنافسية، والإصلاح السياسي الشامل للجامعة العربية وجعلها مؤسسة للمّ الشمل وليس للفرقة والتجزئة، واتخاذ الخطوات اللازمة التي تضمن تفعيل دورها، وضمان الحريات ومنحها الأولوية في أي عمل، مع التمسك بمبدأ العدالة الاجتماعية، والتركيز على ثقافة الإنتاج بديلا للاستهلاك والتواكل، واتخاذ الإجراءات وصياغة التشريعات اللازمة لرفع إنتاجية العامل العربي. وإذا انتقلنا إلى متطلبات تنفيذ المشروع الحضاري العربي نجدها في حاجة إلى تشكيل مجلس عربي، وليس لجنة نظراً للسمعة المعروفة عن اللجان العربية التي ضمن مهامها التحويل إلى لجان أخرى، وهذا المجلس تشارك فيه كل الأطياف والمستويات ويكلف بإعداد الخطة، واستراتيجية العمل وخطوات التنفيذ وأسلوب الإدارة، وذلك وفق جدول زمني واضح وملزم، على أن يتحمل هذا المجلس مسؤولية وضع الحلول المناسبة للتحديات والمشكلات المحتمل أن تواجه التنفيذ، ووضع خيارات وبدائل مختلفة للقضايا الاستراتيجية العربية، وأن يملك الصلاحيات لإدارة استراتيجية التنفيذ. وقد كتب الشاعر التونسي أبوالقاسم الشابي منذ أكثر من مئة عام: إذا الشعب يوماً أراد الحياة.... فلا بد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلي... ولابد للقيد أن ينكسر ومن لم يعانقه شوق الحياة... تبخر في جوها واندثر.