يبدو الأمر من خلال ما يجري في العالم اليوم وكأننا نبالغ في إبداء الشكوى، فقبل ثلاثة أسابيع فقط أعلنت منظمة الصحة العالمية حالة طوارئ على المستوى الدولي، مناشدة جميع البلدان "بالاستعداد لمواجهة وباء عالمي"، مضيفة أن الوباء آتٍ لا محالة وعلينا فقط تحديد مدى الأضرار التي سيلحقها بالإنسان، لا سيما بعدما تنبأ المسؤولون بتفشي العدوى وإصابة الملايين من الناس حول العالم. لكن وإلى حدود الأسبوع الماضي أكدت منظمة الصحة العالمية 4800 حالة إصابة بإنفلونزا الخنازير حول العالم فقط ووفاة عدد لا يتجاوز 61 شخصاً، ولا شك أن هذه الأرقام تمثل في حد ذاتها خبراً ساراً يناقض التوقعات المتشائمة التي أُطلقت في السابق، لكن علينا في الوقت نفسه أن نتساءل عن الخطأ الذي ارتُكب ودفع الناس إلى توقع الأسوأ، ولماذا تبين في النهاية أن التنبؤات المخيفة باندلاع وباء عالمي مبالغ فيها؟ ومع أن بعض المراقبين لجأوا إلى تحميل مسؤولية التهويل من الحادث إلى وسائل الإعلام التي بالغت في تصوير خطورة المرض، فإنه سيكون من الخطأ أيضاً إغفال الدور الذي لعبته في هذا المجال المنظمات الصحية والحكومات عندما حذرت من الكارثة، وهنا أعتقد بأننا نتعامل مع المشاكل العالمية على نحو خاطئ، إذ ما أن يتم رصد أزمة ما حتى يسارع المحللون إلى رسم شتى السيناريوهات واستخلاص النتائج الأكثر شططاً دون أن نقدر جيداً ردة الفعل الإنسانية تجاه تلك التحليلات والتوقعات. وعلى سبيل المثال استفاض العلماء في إظهار الخصائص المميزة لإنفلونزا الخنازير موضحين احتمالات التفشي والانتشار السريع للفيروس وتحوله إلى وباء عالمي إذا لم يُطوق في البداية، وأخذت وسائل الإعلام التقارير العلمية وبثتها إلى الرأي العام محذرة بدورها من خروج المرض عن السيطرة، والحال أن الفيروس ظل في حدود متحكم فيها ولم يخرج قط عن السيطرة، بل جُوبهت إنفلونزا الخنازير بردة فعل قوية وبسلسلة من الإجراءات الحازمة انطلقت من معقلها الأول في المكسيك. فقد سارعت حكومة المكسيك عند تسجيل أولى حالات الإصابة بإنفلونزا الخنازير إلى التصرف بسرعة وحزم، حيث عزلت المصابين وأجرت فحوصاً على الآخرين وزودتهم بالأدوية اللازمة، وهو ما دفع "لوري جاريت" المراقب للوضع إلى القول "إنه علينا جميعاً أن نقف احتراماً للمكسيك ونصرخ بأعلى صوتنا: شكراً على ما قمت به من جهد"، والسبب كما يضيف الخبير هو التضحية التي قدمتها الحكومة المكسيكية وشعبها على نطاق غير مسبوق، مؤكداً أن "الأميركيين أنفسهم ما كانوا ليقوموا بما قامت به المكسيك في ظروف مشابهة، فهم أغلقوا مدارسهم وشركاتهم ومطاعمهم وكنائسهم وأوقفوا الفعاليات الكبرى بما فيها الرياضية، وهم بعبارة أخرى أدخلوا اقتصادهم في مرحلة من الشلل التام وتكبدوا نتيجة لذلك مليارات الدولارات من الخسائر المالية". وفي كل مرة يُكشف فيها عن وباء جديدة وفيروس قاتل، يسارع الكتاب والمحللون إلى التذكير بالإنفلونزا الإسبانية للعام 1918، التي قضى فيها الملايين من الأشخاص، بل إن الرئيس السابق بوش صرح أثناء اندلاع المخاوف من مرض "سارس" في العام 2005 أنه منكب على القراءة عن الإنفلونزا الإسبانية لاستخلاص العبر عن كيفية التصرف في حال تفشي وباء عالمي. بيد أن العالم الذي نعيش فيه اليوم يختلف تماماً عما كان عليه في عام 1918، فأنظمة الرعاية الصحية هي أفضل اليوم وأكثر انتشاراً مما كانت عليه خلال الحرب العالمية الأولى، بل حتى المكسيك وهي البلد النامي تتوفر على نظام صحي أكثر تطوراً مما كان لدى بريطانيا وفرنسا مطلع القرن العشرين. ويمكننا أيضاً تلمس مثل هذه الأخطاء التي يسقط فيها المراقبون من خلال النقاشات السائدة حول الأزمة الاقتصادية بعدما انتشرت على مدى الستة أشهر الماضية موجة التحذيرات وازدهرت صناعة الكارثة والترويج لها ليتنافس الاقتصاديون وخبراء الأعمال في توصيف الكساد الكبير القادم. والحقيقة أن العالم الذي نعيشه اليوم لا يشبه في شيء ثلاثينيات القرن الماضي لما تعرفه المجتمعات الغربية حالياً من ثروة أكبر وازدهار أوسع مع وجود طبقات وسطى تستطيع تحمل فقدان الوظائف مقارنة بما كان عليه الحال في الثلاثينيات، ولا ننسى أن نسبة البطالة في الثلاثينيات ارتفعت في أميركا إلى 37 في المئة فيما لا تتعدى اليوم 8.9 في المئة، كما أن الإعانات الحكومية التي لم تكن موجودة حينها تقوم اليوم بدور كبير في التخفيف من تداعيات الأزمة الاقتصادية. لكن يبقى الفارق الأهم بين ثلاثينيات القرن الماضي واليوم في طبيعة ردود الأفعال، حيث تصرفت الحكومات العالمية بسرعة وحزم فقامت بخفض أسعار الفائدة، واشترت الأصول المتعثرة في البنوك، كما أقرت موازنات ضخمة لتحفيز النمو، وفي المحصلة النهاية وصلت جميع خطط الإنعاش الاقتصادي التي أقرت إلى حدود اليوم إلى تريليوني دولار. وبعبارة أخرى قامت الحكومات العالمية بكل ما يلزم من إجراءات تنظيمية لتطويق الأزمة الاقتصادية ومنع استفحالها دون أن يعني ذلك بالطبع انتهاء الأزمة واستعادة الاقتصاد العالمي لعافيته، لكن علينا في الوقت نفسه سحب تلك المقارنات المتشائمة بين الوضع الحالي وفترة الكساد الكبير خلال ثلاثينيات القرن الماضي. فنحن وإذا كنا نعيش في عالم تحفه المخاطر من كل جانب، فإن العالم أيضاً يقوم على هياكل ومؤسسات تساعد في الحفاظ على حد أدنى من الاستقرار، فهل يعني ذلك أنه علينا التخلي عن الشعور بالذعر؟ أجل، لكن من دون أن ننسى أيضاً أن مشاعر الخوف والقلق هي التي تضمن عدم تحول أزمة ما إلى كارثة، وهنا تكمن المفارقة إذ لو لم يتوجس صناع القرار من تكرار كساد آخر كبير وعجلوا بمواجهته لكنا اليوم نعيش تداعياته الكارثية. -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"