يخطئ من يعتقد أن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد يعبر عن نفسه وقناعاته الشخصية، أو أن له رؤيته الخاصة في إدارة شؤون السياسة الخارجية الإيرانية، خاصة الخليجية منها، لأنه يعمل وفق أطر محددة وواضحة ومسار لا يستطيع أن يحيد عنه إذا أراد الاستمرار في السلطة، صدر عن المرشد الأعلى للثورة في إيران آية الله العظمى علي خامنئي. ومخطئ أيضاً من ينظر إلى العمل السياسي في إيران على أن به تيارين أحدهما إصلاحي التوجه والآخر محافظ المنحى، لسبب بسيط: أن كليهما لا يستطيع أن يفعل شيئاً دون إرادة القائد الأعلى في إيران آية الله العظمى علي خامنئي. ومخطئ مرة ثالثة من يظن أن التصريحات والخطب الرنانة لأعضاء النخبة الحاكمة في إيران، في السلطتين التنفيذية والتشريعية، تعبر عن شعورهم الحقيقي أو أهداف سياستهم الخارجية، لأن "التقية السياسية" هي المسيطر الأساسي على ضمائرهم وتوجهاتهم، فهي جزء من عقيدتهم الدينية: أن يُظهروا غير ما يبطنون، فإذا أكدوا مراراً على سعيهم للتقارب وتوثيق العلاقات مع الآخرين؛ فإن الحقيقة أنهم يريدون الهيمنة وفرض السيطرة، وهذا كله يسير وفق إملاءات صاحب الأمر والنهي المرشد الأعلى. ومخطئ مرة رابعة من يرى أن الرئيس الإيراني أياً كانت رؤاه السياسية يملك من أمره شيئاً، فهو يحكم ولا يملك، بينما المرشد الأعلى يحكم ويملك، فبيده وتحت إشرافه المباشر جميع القوى الناعمة والصلبة للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهي تعمل وفق إشارته. ومخطئ مرة خامسة من ينتظر نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية التي ستجرى في الثاني عشر من شهر يونيو المقبل، على أمل أن يكون هناك تغيير في السياسة الخارجية الإيرانية، لأن واقع الأمر أنه طالما ظل آية الله العظمى علي خامنئي على عرش بلاد فارس لن يكون هناك جديد سوى في تغير شكل "التقية السياسية" ومحتواها ومضمونها من أقوال، بينما ستظل الأفعال والسلوكيات كما هي دون تغيير. لذا فإن من تغنى، ولا يزال، بما قدمه الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد من مقترحات للقمة الخليجية بالدوحة 2008، ودعوته إلى التقارب ونبذ الخلافات لا تخرج عن كونها أحد صور "التقية السياسية"، بعد أن نسي أو تناسى حقيقة التهديدات التي تمثلها إيران على أمن واستقرار المنطقة في ظل إصرارها على احتلال الجزر الإماراتية الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى) وتكريس فرض الأمر الواقع عليها، وعدم الاستجابة إلى صوت العقل والحكمة وبالتوصل إلى حل سلمي لهذا الاحتلال، فضلا عن التصريحات الإيرانية العدائية المستمرة ضد البحرين. لذا فإن القراءة الموضوعية لمضمون خطاب الرئيس الإيراني ومقترحاته في الدوحة، توضح لنا حقيقة النوايا الإيرانية في منطقة الخليج وما تطمع في تحقيقه على أرض الواقع، حيث الأقوال لا تكلف شيئاً، بينما الأعمال هي التي تشهد على ما تحاول طهران أن تحيكه على الأرض لتحقيق مصالحها الحيوية والاستراتيجية. لقد حدد الرئيس الإيراني في خطابه 12 مقترحاً لتعزيز العلاقات وتنمية التعاون بين إيران ودول الخليج والحفاظ على السلام وتعزيزه، ولم يذكر نهائياً "مجلس التعاون لدول الخليج العربية"، لأن إيران لم تعترف أصلا بوجود هذا المجلس كمنظمة إقليمية، وتتعامل مع دوله بشكل منفرد دائماً. تركزت مقترحات الرئيس الإيراني، وهي في ظاهرها الرحمة، ولكن باطنها شيء آخر، حول: تأسيس منظمة للتعاون الاقتصادي، وإلغاء التأشيرات لتسهيل تنقل المواطنين بين "الدول السبع"، والإذن بتمليك العقارات، والاستثمار المشترك في مصادر النفط والغاز على الصعيدين الثنائي والمتعدد الأطراف، والعمل على إقامة مناطق للتجارة الحرة بين "البلدان"، وتوفير إيران المياه والغاز، وتفعيل وتنشيط طريق الشمال إلى الجنوب (داخل إيران)، وتنمية السياحة النزيهة والعائلية، والتعاون لدعم ومساعدة الدول الإسلامية والدول الفقيرة، خاصة فلسطين والسودان والصومال، وتأسيس وإنشاء مؤسسة للتعاون الأمني، والتبادل التعليمي والعلمي والتقني والبحثي، والتعاون للحفاظ على البيئة في منطقة الخليج "الفارسي" وبحر عمان. ويجب ألا ننكر أن المقترحات جميعها تصب في المصلحة الاستراتيجية للمنطقة ودولها، وتضمن التعايش السلمي وتضافر الجهود الجماعية لضمان الاستمرار في خطط التنمية الشاملة، إذا تطابقت أفعال طهران مع أقوالها، وإذا اتفقت السلوكيات والتصرفات الإيرانية مع السياسات المعلنة، ومن ثم تختفي "التقية السياسية". إن الأسئلة المطروحة على طهران بشأن ما أعلنه الرئيس الإيراني كثيرة ومتعددة المستويات والأبعاد، ومن أهمها: كيف يتحقق كل ما دعا إليه قولا، في حين أن السلوك الإيراني يخالفه جملة وتفصيلا؟ وكيف يطالب بالانفتاح والتعاون مع دول لا يعترف بسيادتها واستقلالها؟ وكيف يتشارك مع دول لا يتفق معها في المصلحة أو استراتيجية تحقيقها؟ وكيف يتقارب مع دول يطالبها بالاعتراف به كقوة إقليمية كبرى مهيمنة؟ وكيف يتم الاتفاق على التحديات والتهديدات المشتركة لـ"ثورة" تحاول أن تظهر كدولة، وهي نفسها مصدر للتهديد الإقليمي؟ وكيف تثق دول الخليج العربية بثورة تكرس جهودها يومياً لتوسيع الخلل في الميزان الاستراتيجي؟ هذا جزء يسير من أسئلة عديدة ومهمة تفرض نفسها على واقع سلوك بلاد فارس وتشير إلى الفجوة الهائلة بين الحقيقة والطموح، وبين الإصرار على دعاوى الخليج "الفارسي" وغض النظر عن عروبة الخليج، وبين نزعات الهيمنة وجهود التنمية. لقد استطاعت دول مجلس التعاون الخليجي أن تكون رسالتها واضحة لطهران، فهي مدعوة للانضمام إلى المنظومة الخليجية ولكن وفق الشروط العربية التي من أهمها: * أن تتحول الثورة في إيران إلى دولة، وما يتطلبه ذلك من إعادة النظر في الدستور. * أن تتعهد طهران بعدم المساس بالسيادة والاستقلال الوطنيين لأي دولة في المنطقة. * أن تتخلى عن نزعات الهيمنة والسطوة، وتصبح دولة عادية مثل باقي دول المنطقة. * أن تشرع في اتخاذ إجراءات لبناء الثقة بين دول المنطقة، وأول هذه الإجراءات قبول الحل السلمي لمسألة احتلالها للجزر الإماراتية الثلاث. * أن تتمسك بالشفافية الكاملة ودون مواربة فيما يخص برنامجها النووي، وتنصاع إلى إرادة المجتمع الدولي بأن تتخلى عن تخصيب اليورانيوم على أراضيها، وتقبل بأي من المقترحات الإقليمية المعروضة عليها. * أن تكف عن التدخل في الشؤون العربية، بل أن يتم ذلك عن طريق القنوات الشرعية ودون اختزال للجهود العربية والدولية لحلها. * أن تعترف طهران بحاجتها إلى المساندة والدعم الاقتصادي والتجاري والاستثماري الخليجي لتخرج من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة. * أن تتوقف داخل النخبة الحاكمة في إيران مسألة لعب الأدوار في إصدار التصريحات، حيث البعض يهدد والبعض يتنصل مما قاله غيره، ثم يظهر "بعض" جديد يصادر ما قاله الآخرون ويصعد من المواجهة، على الرغم من أن الجميع يعملون وفق إرادة المرشد الأعلى. * الكف عن التعامل مع دول المنطقة بنظام الملفات، والفصل بين دول المنطقة وفق قربها أو بعدها عن الملف، والتوقف من مساعي الاستقطاب وسياسة إقامة المحاور، فلم تعد المنطقة تتحمل مثل هذه الانقسامات. للإمام الخميني، مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران، مقولة أطلقها أثناء عودته من منفاه في باريس إلى طهران عام 1979: "إن دور الفرس قد حان ليقودوا العالم الإسلامي، بعد أن قاده العرب والأكراد والأتراك في فترات متعاقبة"، ويفرض ذلك ضرورة إدراك طبيعة الخلفية الإيرانية للأحداث الراهنة، والكف عن البحث عن أي تبريرات لها، فواقع "التقية السياسية" ينضح بالنوايا الحقيقية لملالي إيران، ويطالب باحتشاد العرب جميعاً لمواجهته.