من المسلَّمات الراسخة التي استقرت في عقول معظم المثقفين والكتّاب والمفكرين العرب وعاشت في وجدانهم، ربما قبل أن يراها الغرب ويتحدث عنها بلغة الأرقام والإحصائيات، هي أن الشعوب العربية لا تقرأ، وتتأثر بالشعارات والهتافات أكثر من تأثرها بالفكر والمنطق والحجة، وتوجد تبريرات كثيرة لهذا الأمر، من المؤكد أنها لن تصمد كثيراً أمام أي تحليل علمي لها، وسوف يتم دحضها، فلا يوجد أي سبب أو مبرر يمنع الفرد من القراءة. ومن المهم أن يجتمع الناشرون والكتّاب العرب، وكل من هو مهتم بتشجيع العرب على القراءة في لقاء عنوانه الصراحة والشفافية للوقوف على الأسباب التي تجعل المواطن العربي يعزف عن القراءة، وهل هي الموضوعات والقضايا المطروحة؟ أم شكل الإخراج وأسلوبه؟ أم هي الظروف الحياتية وارتفاع تكاليف المعيشة؟ لذلك حاولت أن أتعرف عن قرب على مزاجية القارئ العربي واهتماماته، والموضوعات والقضايا التي يركز عليها ويتابعها باستمرار، من خلال متابعة تعليقات القرّاء على ما ينشر في الصحف أو على شبكة الإنترنت من مقالات وتحليلات متعددة للكتّاب العرب، في عملية انتقائية متنوعة تغطي مجالات عدة سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية وثقافية وفنية، وذلك خلال مدّة زمنية محددة هي الأشهر الأولى من عام 2009. وكانت النتيجة مدهشة وصادمة في آن واحد، فمن حيث نوعية المعلقين نجد الآتي: * معظم المعلقين من "الجنس الخشن" مقارنة بـ"الجنس الناعم"، وهذا لا يعني عدم اهتمام الإناث بالقراءة، ولكن قد يعني عدم اكتراثهنّ بالتعليق، أو أن معظم الموضوعات المطروحة لا تدخل في دائرة اهتماماتهن. * أن هناك مشاركة واضحة من عرب الشتات، أقصد العرب في المهجر، مقارنة بعرب الداخل أي المحاصرين داخل جدران الوطن، ما يعني اهتمامهم بالموضوعات والقضايا التي تمس دولهم أو مجتمعاتهم أو العرب عامة، ربما لمتابعة ما يجري هناك، فقد يقنعهم ذلك بأن رحيلهم أو هجرتهم كانت على حق. * أن الطائفية العرقية والدينية والمذهبية والسياسية، لها تأثير كبير في مضمون التعليق ومحتواه، حيث نجد أن التعليقات تحمل في طياتها الانقسامات والأحقاد وتنطق بالانتماءات المختلفة، ومن ثم يمكن بسهولة التعرف على انتماء كاتبها وتوجهاته وقناعاته وهمومه واهتماماته. * أن جنسية الكاتب، وليس ما يكتبه، لها الاهتمام الأكبر من القرّاء وتعليقاتهم. * أن المسؤول عن بريد القرّاء في بعض الصحف أو المواقع قد يلجأ في أحيان كثيرة إلى كتابة التعليقات وتحت أسماء وهمية، إما لتحفيز القارئ على التعليق، وإما لإشعار الكاتب بأن هناك من يتابع ما يكتبه حتى لا يصاب بالإحباط نتيجة "الضربة الاستباقية من القرّاء" بالعزوف عن متابعة ما يكتبه. أما من حيث تقسيم التعليقات فإنها تتنوع بين من يكتب بموضوعية ومن لا يفهم مضمون ما قرأه أو يدرك الهدف منه، لذلك يمكن تقسيم التعليقات بشكل عام إلى الأنواع الآتية: * المهاجمون، وهم العدد الأكبر من المعلقين، ولديهم أجندة مسبقة، ويركزون هجومهم على كاتب المقال، وفي أحيان كثيرة لا يتعرضون لمضمون ما يكتبه. * المدافعون، حيث يتمسك هؤلاء بمبدأ "انصر أخاك ظالماً" فقط، فالدفاع المستميت عن الإسلاميين المتطرفين، وعن إيران، و"حزب الله" اللبناني، وتنظيم "القاعدة" وقادته وزبانيته، يشكل أساس تعليقاتهم حتى لو كانت الأدلة دامغة. * الناقدون، وهؤلاء قلة ونقدهم يعبّر إما عن عدم إدراك ما يقصده الكاتب، وإما لاتخاذهم مواقف مسبقة من الموضوع، والرؤية عندهم إما أبيض وإما أسود ولا تقبل النقاش. * الهواة، وهم أصحاب الرغبة في التعليق من أجل التعليق، ولا يهم ما يكتبونه، وليس لهم أي موقف من أي قضية أو موضوع، ويتنقلون ما بين رأي الأغلبية والمعارضة. * المتطرفون، حيث يزجّ هؤلاء بالدِّين والأعراف والتقاليد في كل شيء، ويتسم هجومهم باللعن والسباب والدعاء بالفقر والعوز والمرض على الكتاب والمعلقين وربما القراء، ونسوا أو تناسوا أن المجتهد إن أصاب فله أجران وإن لم يصب فله أجر واحد. * القضاة، الذين ينصّبون أنفسهم للحكم على الكاتب وفق جنسيته وما يكتبه، وبرغم أنهم قلة، فإن حكمهم يخلو من الموضوعية ويفتقد الدقة، خاصة أن التهم التي يكيلونها للكاتب والناشر من النوع "سابق التجهيز". * الباحثون عن التسلية، وهم كثيرون أيضاً، ويبحثون دائماً عن المقالات الفنية ويتقصُّون الأخبار المثيرة والحوادث والجرائم بأنواعها، وتعليقاتهم لا تخلو من الطرافة أحياناً ومن تشجيع الفنانين المستمر الأعمى، خاصة للممثلات والراقصات. * المتفلسفون، وهؤلاء يحاولون عرض وجهة نظرهم في الموضوع أو القضية المطروحة دون أي اعتبار لما ورد في المقال، بل أحياناً يكتبون في موضوع آخر لإثبات درايتهم بخفايا الأمور وما تختلج به النفس البشرية من آثام وشر. * السفسطائيون، من محبي الموضوعات الغريبة والجدلية، وهم يتابعون بشغف الفتاوى الغريبة، ويتداولونها بالبريد الإلكتروني، وتعليقاتهم دائماً أكثر غرابة سواء من حيث اختيار الكلمات أو التعابير، أو في عرض أفكارهم وآرائهم، وهم يحبون أحياناً التعليق على التعليق. أما من حيث مساحة التعليق فإن هناك صحفاً ثابتة المساحة ربما يجري خلالها اختصار التعليق بحيث لا يزيد على 50 كلمة، في حين أن هناك مواقع إلكترونية تترك مساحة كبيرة للتعليق، لذلك فإن التعليقات تتراوح ما بين الكلمة الواحدة، التي عادة ما تكون تعبيراً فكاهياً أو غاضباً، وأكثر من 300 كلمة. ولكن نجد أن معظم المعلقين يستخدمون إما أسماء وهمية، وإما ألقاباً أو صفات تنمّ في معظم الأحيان عن سخريتهم من الحياة أو شعورهم بالملل أو فقدانهم الأمل، ولكن يظل دائماً الانتماء إلى جنسية هو الغالب مقرونة بصفة محمودة، فهذا مصري صميم، وهذه لبنانية مخلصة، وذاك موريتاني فيلسوف. وإذا انتقلنا إلى تقسيم التعليقات من حيث مجال الاهتمام سنجد أن المقالات الدينية أو التي تمسّ الدِّين من قريب أو بعيد سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة تستقطب أكبر عدد من التعليقات، خاصة إذا كانت تهاجم أياً من الحركات الإسلامية المتطرفة، يليها ما يكتب عن الفنانين والممثلين، ثم الحوادث الغريبة عن المجتمع العربي، ونادراً ما يتم التعليق على المقالات السياسية أو الاجتماعية الجادة، ولكن الحذر واجب عند الكتابة ضد إيران أو الشيعة أو المرأة، حيث التعليقات تحمل هجوماً خطراً وتهديداً أخطر لكاتبها ويجري اتهامه بكل الجرائم. ولكن الأمر الغريب هو عدم وجود كاتب يردّ أو يناقش القراء إلا فيما ندر، بل إنه لا يكلف نفسه عناء قراءة ما يكتبه غيره من الكتاب لإثراء النقاش حول قضايا بعينها، أي أن الكاتب يرمي بمقاله إلى الصحف أو المواقع الإلكترونية دون اكتراث لما بعد ذلك، فجلّ همّه إفراغ ما في جعبته ثم يمضي نحو مقال آخر، وهذا الأمر يؤكد حالة اللامبالاة التي يعيشها المجتمع العربي في ظل "الانسداد السياسي" الحالي. من المؤكد أننا لا نصادر حق القراء في التعليق على ما يتم نشره في الصحف الورقية أو الإلكترونية، كما أننا لا نطالبهم بعدم التعبير عن أفكارهم ورؤاهم، ولكننا ندعو إلى مزيد من القراءة وإلى كثير من الموضوعية وقليل من التطرف واللامبالاة، والتأكد من أن الكاتب في أشد الحاجة إلى تعليقات القارئ سواء كانت معه أو ضده، فالحديث من طرف واحد هو "حوار الطرشان".