عادة ما يدور الحوار الأميركي عن السياسات الخارجية حول ما ينبغي أن تفعله أميركا، وليس حول ما بوسعها أن تفعله. ذلك أن الافتراض العام هو أن في مقدور أميركا القيام بكل ما تريده، طالما أنها هي أقوى دولة عرفتها البشرية. وقد أدى هذا الوضع إلى خوض الحكومات الأميركية المتعاقبة والطبقات السياسية والإدارية، في سلسلة من المشروعات العسكرية التي تعجز الحكومات عن تحقيقها. وليس هذا الأمر مما يحظى بالتعليق عليه عادةً، إلا أنه ظل حقيقة متكررة منذ حربي كوريا وفيتنام. أما أكبر الانتصارات التي حققتها الولايات المتحدة في الحرب الباردة، فكان هدية لها في واقع الأمر، من خصمها الاتحاد السوفييتي السابق، الذي انهار داخلياً وخسر الحرب من تلقاء نفسه. وعليه فإن من إهدار الطاقة والوقت معاً، محاولة بذل ذات الجهود الجبارة التي بذلتها إدارة بوش السابقة في مشروع بناء الشرق الأوسط الكبير، الذي ليس له من وجود فعلي، لا في الوقت الحالي ولا في أي وقت في المستقبل، على ذلك النحو الذي تصوره مسؤولو تلك الإدارة ومخططوها. ولكن على رغم هذه الحقيقة، ها هي "المشروعات الأميركية الطويلة" تمتد جهودها وأيامها في ظل إدارة جديدة، وبذات الطموحات الكبيرة، في كل من أفغانستان وباكستان. أما في العراق، حيث أزهقت أرواح الملايين، فتبدو مؤشرات واضحة على عودته مجدداً إلى نزاعاته الطائفية الدموية، التي لا يخشى كثيرون أن تكون هي الوضع الذي سيستقر عليه للأسف. وربما ينتهي الوضع في كل من باكستان وأفغانستان إلى المصير نفسه، على رغم أن واشنطن لا تزال تكابد من أجل بناء ما تسميه مشروع "جنوب آسيا الجديد". يذكر أن الكاتب والمحلل السياسي الأميركي "توماس فريدمان" كان قد أصاب جزئياً في تشخيصه لمعضلة جنوب آسيا بوصفه إياها بأنها من المناطق الصعبة التي لا يرجى فيها حل سريع. "فقادة حكومات المنطقة، لا يكفون عن تكرار وعد قيامهم بما تطلبه منهم واشنطن، وأنهم سيشمرون عن ساعد الجد ويبذلون قصارى جهدهم في تحقيق تلك الوعود. ولكن سرعان ما تتبخر الوعود وتضمر السواعد، طالما ظل التأثير الذي تتمتع به بعض حكومات المنطقة محدوداً جداً". لقد أصاب "فريدمان" فيما قاله هنا، إلا أنه ينزلق إلى تفضيله الشخصي لبذل المزيد من الجهود الأميركية وجهود الحلفاء، في إعادة بناء تلك الأمم "من داخلها" وتحويلها إلى أمم حديثة، وخاصة أن جهوداً مثل هذه قد سبق لها أن أثمرت من قبل. وللمفارقة، يستطرد فريدمان قائلا: "إن علينا حرفياً أن نبني المؤسسات -لأنها بمثابة الروافع- التي تمكن قادة الدول المعنية من تحقيق الوعود التي يقطعونها على أنفسهم"! والغريب أن هناك في واشنطن من لا يزال يعتقد بإمكانية تحقيق هذا الطموح. وهذا ما يفسر اتجاه التدريب الذي يخضع له المسؤولون العاملون في الخدمات العسكرية والإدارية الحكومية معاً، خلال العام الماضي كله، إلى رفع مهارة المتدربين في كيفية بناء الديمقراطية "من الداخل" في دول مثل باكستان وأفغانستان، على حد افتراضي. فقد أعلنت كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية السابقة في إدارة بوش، عن هذه السياسة الجديدة في مجلة "الشؤون الخارجية" الصادرة في صيف العام الماضي. ولا يمثل هذا التدريب العاطل -الذي يطالب المسؤولين بتحقيق المستحيل- أي شيء أفضل من التزام وزارة الدفاع غير المناسب بإنتاج المزيد من أسلحة ونظم الحرب الباردة المتطورة، التي لن يكون لها يوماً أي نظير أو منافس خارجي من النظم الدفاعية الخاصة بتلك الحرب. وفي الوقت نفسه تبقى هذه النظم التي تلتزم بها وزارة الدفاع، عديمة الجدوى في القتال ضد الأعداء الحقيقيين الذين يتربصون الآن بأميركا. ولعل السبب الرئيسي الذي حال دون استخدام المقاتلة F-22 في العراق، هو عدم وجود مهمة حربية لها هناك، إلى جانب سهولة ضربها وإسقاطها، بالنظر إلى انخفاض الارتفاعات الجوية التي تطير فيها عادة، إضافة إلى سهولة اختراق جسدها بنيران البنادق العادية. وليس طبعاً بطلان هذا الالتزام بخافٍ على أحد، بل إنه كثيراً ما تعرض للانتقادات. ولكن تبقى المشكلة الرئيسية التي تفسر استمراره هي: وهم الجبروت الأميركي. ويقوم هذا الوهم على افتراض أن أميركا ستبقى دولة عظمى كلية الجبروت دائماً، وأن ذلك هو ما يريده لها العالم دائماً أن تكون. فذلك هو قدرها، كما يقال! وبهذه المناسبة أنبه القراء إلى كتاب مهم صدر حديثاً عن مطبعة جامعة كورنيل، تحت عنوان "معضلة القوة". وتكمن أهمية هذا الكتاب في استنتاجه أن القوة طالما أغرت واشنطن بالإفراط في استخدامها، أو بتوظيفها في غير مكانها، وأن السلوك الذهني الناتج عن الهيمنة العسكرية الأميركية، جعل أميركا دولة أقل أمناً وأكثر عرضة للخطر وأدنى قدرة من القيام بالحد الأدنى من مقتضيات الأمن القومي الأساسية. ومؤلف هذا الكتاب هو "كريستوفر إي. بريبل" وهو ضابط سابق في البحرية الأميركية، ورئيس حالي لدراسات السياسات الخارجية بمعهد "كاتو". ويجادل الكاتب مثلما يفعل الكثيرون غيره، بأن لأميركا قوة تفيض عن حاجتها، بينما تتسم هذه القوة بالمحدودية والضعف في مواجهة المتمردين والأعداء الجدد الذين ليس لهم دولة ولا وطن ولا حدود. ومعضلة هذه القوة المفرطة أنها تسبب ارتباكاً بين القوة العسكرية، والقوة القومية، علماً بأن في وسع الأخيرة تحقيق النتائج المرجوة عادة. وفي اعتقادي أنه كتاب جيد ويستحق الاهتمام الواسع به. ويليام فاف ـــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيس"